(بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
٢٥٤٠ - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
(بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ)
حَقِيقَةُ الْإِحْرَامِ الدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ، وَالْمُرَادُ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ أَيِ الْتِزَامُهَا وَالْتِزَامُهَا شَرْطُ الْحَجِّ شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَعَطْفُ التَّلْبِيَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ مَبْنِيُّ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِحْرَامَ هُوَ النِّيَّةُ فَقَطْ أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّلْبِيَةِ غَيْرِ الْمَقْرُونَةِ بِالنِّيَّةِ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِهَا وَأَحْوَالِهَا وَفَضَائِلِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِجْمَاعًا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلًا بِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقَعْ فِي خُصُوصِ الرُّكْنِيَّةِ بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، إِذْ هُوَ الَّذِي مِنَ الْأَرْكَانِ لِخَبَرِ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ اهـ.
وَفِيهِ أَبْحَاثٌ لَا تَخْفَى مِنْهَا دَعْوَاهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأَرْكَانِ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ إِجْمَاعَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، بَلْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَأْبِهِمْ تَبْيِينُ الرُّكْنِ مِنَ الشَّرْطِ وَنَحْوِهِمَا هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ إِجْمَاعُ الْخَلَفِ فَنَاهِيكَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْهُمَامِ الْأَقْدَمِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ، ثُمَّ جَوَابُهُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقَعْ عَلَى خُصُوصِ الرُّكْنِيَّةِ بَلْ عَلَى مُطْلَقِ الْوُجُوبِ: فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَمُطْلَقِ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّ كُلَّ رُكْنٍ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ رُكْنًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ وَمُحَرَّرٌ فِي الْمَحْصُولِ، ثُمَّ تَفْسِيرُهُ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مَرْدُودٌ عَلَيْهِ: بِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٢٥٤٠ - (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ) أَيْ: أُعَطِّرُ، (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ) أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِهِ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ لِأَجْلِ إِحْرَامِ حَجِّهِ، (قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا الْمُحِدَّةِ: أَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ الْغُسْلِ إِلَّا فِي بَدَنِهِمَا، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ التَّطَيُّبُ عِنْدَ خُرُوجِهِنَّ لِنَحْوِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِضِيقِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُنَّ اجْتِنَابُ الرِّجَالِ بِخِلَافِ ذَلِكَ هُنَا اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُدَّعَى، (وَلِحِلِّهِ) أَيْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ، (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) أَيْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحِلِّهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِمَاعِ (بِطِيبٍ) مُتَعَلِّقٌ بِأُطَيِّبُ، (فِيهِ مِسْكٌ) يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ ذَرِيرَةٌ وَلَا تَنَافِي، إِذْ لَا مَانِعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلِطُونَ الذَّرِيرَةَ بِالْمِسْكِ وَفِي الْقَامُوسِ الذُّرُورُ عِطْرٌ كَالذَّرِيرَةِ، (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ) أَيْ لَمَعَانِهِ وَبَرِيقِهِ، (فِي مَفَارِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مَفْرِقٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ وَسَطُ الرَّأْسِ الَّذِي يُفْرَقُ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ تَعْمِيمًا لِسَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كَأَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَفْرِقًا وَفِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ مَفْرِقٌ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَهُوَ مُحْرِمٌ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَا يَضُرُّ، وَلَا يُوجِبُ فِدْيَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَثَرِ اهـ.
وَقَدْ سَبَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، هَذَا وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِوَبِيصِ الطِّيبِ فِيهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنَّ فُتَاتَ الطِّيبِ كَانَ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِحَيْثُ يَلْمَعُ فِيهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ الْبَرِيقَ قَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْأَثَرِ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ عَيْنُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَيُؤَيِّدُهُ طَيَّبْتُهُ طِيبًا لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ، فَوَجْهُهُ لَا يَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا «طَيَّبْتُهُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا يَنْضَحُ طِيبًا» ، وَفِي أُخْرَى لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ تَأْوِيلُ رِوَايَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِأَنَّ التَّطَيُّبَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْرَامِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَمِمَّا يَدْفَعُهُ أَيْضًا قَوْلُهَا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَخْ. فَظَاهِرُ الدَّفْعِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَذَا قَوْلُهُ وَزَعَمَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ أَثَرٌ لَا جِرْمٌ لِذَهَابِهِ بِالْغُسْلِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ اهـ.