وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ وَاحِدَةٌ مِنَّا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتَدَامَتَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَيْسَ كَاسْتِدَامَةِ لُبْسِ الْمَخِيطِ، خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ النَّصَّ الْوَارِدَ وَقَاسَ هَذَا الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَطَيُّبِ النِّسَاءِ لَا مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا وَمَنْ لَمْ يَرَ التَّطَيُّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِطِيبٍ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ فَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالطِّيبِ الدُّهْنُ الْمُطَيِّبُ، أَوِ الطِّيبُ الَّذِي لَا يَبْقَى جِرْمُهُ وَتَبْقَى رَائِحَتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَطَيُّبِ ثِيَابِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ نَدْبِهِ بَلْ كَرَاهَتُهُ فَيَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَبٌّ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ حَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَدَلِيلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» ، وَمِنْ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ حِلَّ الطِّيبِ كَانَ خَاصًّا بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ، وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِحُرْمَةِ الطِّيبِ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ لِخُصُوصِ ذَلِكَ الطِّيبِ بِأَنْ كَانَ خَلُوقًا، فَلَا يُفِيدُ مَنْعُهُ الْخُصُوصِيَّةَ، فَنَظَرْنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُصَفِّرٌ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ وَقَدْ نُهُوْا عَنِ التَّزَعْفُرِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُقَدَّمٌ» عَلَى مَا فِي أَبِي دَاوُدَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحَّحَهُ لِأَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَقْوَى خُصُوصًا وَهُوَ مَانِعٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُبِيحِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ اغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الزَّعْفَرَانَ، وَلِلِاخْتِلَافِ اسْتَحَبُّوا أَنْ يُذِيبَ جِرْمَ الْمِسْكِ إِذْ تَطَيَّبَ بِهِ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute