أَعْلَمُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) سَاقَ الْهَدْيَ أَوَّلًا قَرَنَ مَعَهُ عُمْرَةً أَوْ لَا (فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ) أَيْ إِلَّا مَنْ أُمِرَ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ (قَالَتْ: فَحِضْتُ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) أَيْ لِلْعُمْرَةِ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ وَلَمْ أَسْعَ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَصِحُّ السَّعْيُ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ (فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهِلَّ) أَيْ: لَمْ أُحْرِمْ أَوَّلًا (إِلَّا بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي) أَيْ شَعَرَهُ (وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أُحْرِمَ بِالْحَجِّ (وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ) أَيْ أَرْفُضَهَا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَأَتْرُكَهَا بِاسْتِبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ التَّمْشِيطِ وَغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَأَسْتَبِيحَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْهُ أُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، أَيْ قَضَاءً وَهَذَا ظَاهِرٌ (فَفَعَلْتُ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ عَطْفٌ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي) أَيْ بَدَلَهَا، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ عُمْرَتِي الَّتِي رَفَضْتُهَا (مِنَ التَّنْعِيمِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَمِرَ.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَرْسَخٌ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِتَرْكِ الْعُمْرَةِ رَأْسًا، بَلْ أَمَرَهَا بِتَرْكِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَإِدْخَالِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لِتَكُونَ قَارِنَةً، أَقُولُ: الْقَارِنُ لَا يَسْتَبِيحُ بِالْمَحْظُورِ فَانْقَلَبَ الْمَحْظُورُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا عُمْرَتُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ فَكَانَتْ تَطَوُّعًا لِتَطِبْ نَفْسُهَا لِئَلَّا تَظُنَّ خَوْفَ نُقْصَانٍ بِتَرْكِ أَعْمَالِ عُمْرَتِهَا، أَقُولُ: حَاشَاهَا أَنَّ تَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِتَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ (قَالَتْ: فَطَافَ) أَيْ طَوَافَ الْعُمْرَةِ (الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) أَيِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا الْعُمْرَةَ عَنِ الْحَجِّ (بِالْبَيْتِ) مُتَعَلِّقٍ بِطَافَ (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَالطَّوَافُ يُرَادُ بِهِ الدَّوْرُ الَّذِي يَشْمَلُ السَّعْيَ فَصَحَّ الْعَطْفُ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ:
" عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ".
(ثُمَّ حَلُّوا) أَيْ خَرَجُوا مِنَ الْإِحْرَامِ (ثُمَّ طَافُوا طَوَافَهَا) أَيْ لِلْحَجِّ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى) أَيْ إِلَى مَكَّةَ (وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيِ ابْتِدَاءً أَوْ إِدْخَالًا لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ (فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُمَا جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ الْقَارِنُ طَوَافَانِ: طَوَافٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافٌ بَعْدَهُ لِلْحَجِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ طَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَوَافُهُمْ وَاحِدًا وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا لِلْحَجِّ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى لِمَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ طَوَافٍ آخَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ (وَاحِدًا) تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَعَدُّدِ الطَّوَافِ لِلْقَارِنِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَيَكُونُ مُرَادُهَا - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - بِالطَّوَافِ طَوَافَ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالتَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ إِجْمَاعًا، أَوْ طَوَافَ فَرَضِ عُمْرَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ عِنْدَنَا لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى بِسَعْيَيْنِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute