وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلْنَا، فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ زَامِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَامِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً مَعَ غُلَامٍ لِأَبِي بَكْرٍ، فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ، فَطَلَعَ، وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ فَقَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ، وَطَفِقَ يَضْرِبُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَسِمُ وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ، وَمَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْتَسِمُ» " وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: تَمَامُ الْحَجِّ ضَرْبُ الْجَمَّالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَمَّا بَلَغَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَبْوَاءَ، وَوَدَّانَ أَهْدَى لَهُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى فِي وَجْهِهِ أَيْ: مِنَ التَّغَيُّرِ لَا مِنَ الْغَضَبِ - كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " «أَنَّهُ بَعْضُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ يَقْطُرُ دَمُهُ» " وَعَيَّنَ بَعْضٌ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ الْعَجُزُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ شِقُّهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا، وَبَعْضَ مَذْبُوحٍ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا أَنَّهُ رُدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ» ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا، فَلَعَلَّهُ رَدَّ الْحَيَّ، وَقَبِلَ اللَّحْمَ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْحَيَّ لِكَوْنِهِ صَيْدًا، وَرَدَّ اللَّحْمَ تَارَةً لِكَوْنِهِ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَقَبِلَ أُخْرَى حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ حَمْلُ قَبُولِهِ عَلَى حَالِ رُجُوعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْجُحْفَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ أَنَّهُ حَالَ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ قَبُولِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحْضَرَ الْحِمَارَ مَذْبُوحًا، ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ جُزْءًا بِحَضْرَتِهِ، فَقَدَّمَهُ لَهُ، فَمَنْ قَالَ: أَهْدَى حِمَارًا أَرَادَ ابْتِدَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ مَا قَدَّمَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْدَاهُ لَهُ حَيًّا، فَلَمَّا رَدَّهُ ذَكَّاهُ، وَأَتَاهُ بِبَعْضِهِ ظَانًّا أَنَّ الرَّدَّ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ حَيًّا مُغَايِرٌ لِلْجُزْءِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ صَيْدٌ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَأَمَّا الْجُزْءُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ فَيَحِلَّ، أَوْ صِيدَ لَهُ فَيَحْرُمُ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لَحْمُ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَخْذًا بِقَضِيَّةِ الصَّعْبِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِخَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِينَ: هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَهَا» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute