للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَمْسَحُونَهَا، وَيُقَبِّلُونَهَا تَسَبُّبًا لِلنَّفْعِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْأَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَيُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ بِنَاءً عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي حَدِّ الذَّاتِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْعَارِفِ بِالْمَوْجُودَاتِ بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتٍ، وَلَا بَيْنَ حَجَرٍ وَحَجَرٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظَّمَ مَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَيَوَانِيَّةِ كَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْجَمَادِيَّةِ ; كَبَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَكَانِيَّةِ كَحَرَمِ اللَّهِ، وَالزَّمَانِيَّةِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ خَوَاصَّ الْأَشْيَاءِ فِي مَكْتُوبَاتِهِ، وَجَعَلَ التَّفَاوُتَ وَالتَّمَايُزَ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ.

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَلَوْ عَلِمْتَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَقُلْتَ كَمَا أَقُولُ ; {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] فَلَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمُ الْعَبِيدُ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رَقٍّ، وَأَلْقَمَهُ فِي هَذَا الْحَجَرِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ عَيْنَانِ، وَلِسَانٌ، وَشَفَتَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ، فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ لَهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أَبْقَانِي اللَّهُ بِأَرْضٍ لَسْتَ بِهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، وَمِنْ غَرَائِبِ الْمُتُونِ مَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَجُلٌ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ» " فَلْيُرَاجَعْ إِسْنَادُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنْ صَحَّ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ حَدِيثِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ عَلِيٍّ، أَعْنِي قَوْلَهُ: " بَلْ يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ " بَعْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ " ; لِأَنَّهُ صُورَةُ مُعَارَضَةٍ، لَا جَرَمَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنِ الْعَبْدِيِّ: إِنَّهُ سَاقِطٌ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِزَالَةً لِوَهْمِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ أَصْنَامٌ اهـ.

فَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ( «لَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ» ) إِيمَاءً إِلَى الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ التَّعَبُّدِيَّةِ، وَالتَّنَزُّلِ وَالتَّوَاضُعِ تَحْتَ الْأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يَتَحَيَّرُ فِي تَقْبِيلِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ - الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا خُلِقَ الْأَفْلَاكُ - لِحَجَرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْجَمَادَاتِ الَّذِي مِنْ أَحْقَرِ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَفِي جَوْفِهِ مِيثَاقُ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَنَزُّلَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّجَلِّيَاتِ السُّبْحَانِيِّةِ حَيْثُ جَعَلَ لِعَبِيدِهِ حَرَمًا يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَيَلْتَجِئُونَ لَدَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُونَ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ، وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِمْ، وَحَلَالَاتِهِمْ، وَيَمِينًا يُقَبِّلُونَهَا، وَيَمْسَحُونَ أَيْدِيَهُمْ، وَيَضَعُونَ وُجُوهَهُمْ عَلَيْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ» ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ( «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ مَسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ» ) ، وَهَذَا كُلُّهُ تَأْنِيسٌ لِعِبَادِهِ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى أَغْلَبِهِمُ التَّعَلُّقُ بِالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ فِي بِلَادِهِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ أَنَّ هَذَا التَّقْبِيلَ لَا يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ عَقِيبَ التَّقْبِيلِ؟ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُهُ، وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَهُ، ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، فَفَعَلْتُهُ» . رَوَاهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ قِوَامَ الدِّينِ الْكَاكِيَّ قَالَ: وَعِنْدَنَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَنَقَلَ السُّجُودَ عَنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَنَاسِكِهِ اهـ.

أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَسْجُدَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عِنْدَ عَدَمِ الزِّحَامِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ، وَأَخِرِهِ تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَلَوْ ضَعِيفًا، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّحُوهُ؟ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَهُ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَالَ: " يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>