قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: سَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا، أَوْ غَنِيًّا، وَإِنَّمَا مَنَعُوا ذَلِكَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ لِئَلَّا يَنْحَرَهَا أَحَدٌ، وَيَتَعَلَّلُ بِالْعَطَبِ، هَذَا إِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا ; فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَأْكُلَ مِنْهُ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّقْلِيدِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنَ الرُّفْقَةِ أَيِ: الْقَافِلَةُ كَانَ ضَائِعًا. قُلْتُ: أَهْلُ الْبَوَادِي يَسِيرُونَ خَلْفَهُمْ، فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ، وَقَالَ: " إِنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ: " لَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتَكَ ".
وَقَدْ أَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَعْمَلَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ بِهَا، قَالَ: كَانَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فَذَكَرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: «عَطِبَ مَعِي بَعِيرٌ مِنَ الْهَدْيِ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَبْوَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " انْحَرْهَا، وَاصْبُغْ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ» ".
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سِنَانِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ذُؤَيْبًا الْخُزَاعِيَّ أَبَا قَبِيصَةَ، حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ بِالْبُدْنِ مَعَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ» ) . وَاعْلَمْ بِأَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ سِنَانًا، وَالْحَدِيثُ مُعَنْعَنٌ فِي مُسْلِمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ لَهُ شَوَاهِدَ وَلَمْ يُسَمِّ ذُؤَيْبًا، بَلْ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا. وَإِنَّمَا نَهَى نَاجِيَةَ، وَمَنْ ذَكَرَ عَنِ الْأَكْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ: وَلَا دَلَالَةَ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ عَلَى الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ فِيمَا عَطِبَ مِنْهَا فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إِذْ بَلَغَ الْحَرَمَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ أَوْ لَا؟ اهـ. وَقَدْ أَوْجَبْنَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ إِذَا ذُبِحَ فِي الطَّرِيقِ امْتِنَاعَ أَكْلِهِ مِنْهُ وَجَوَازَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابَهُ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ اهـ.
وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَمَا عَطِبَ أَيْ: هَلَكَ مِنَ الْهَدْيِ، أَوْ تَعَيَّبَ بِفَاحِشٍ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ إِجْزَاءَ الْأُضْحِيَّةِ؟ كَذَهَابِ ثُلُثِ الْأُذُنِ، أَوِ الْعَيْنِ، فَفِي الْوَاجِبِ أَبْدَلَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَتَأَذَّى بِالْمَعِيبِ، وَالْمَعِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِتَعْيِينِهِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ صَرْفُهُ فِيهَا، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي التَّطَوُّعِ نَحْرُهُ، وَصَبْغُ نَعْلِهِ، وَضَرْبُ صَفْحَتِهِ لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ الْقِلَادَةُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِعْلَامُ النَّاسِ أَنَّهُ هَدْيٌ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، هَذَا وَنَقْلُ الْوَاقِدِيِّ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُخْتَصٌّ بِخِدْمَةِ نَاجِيَةَ لَهُ، وَالْبَاقِي لِغَيْرِهِ مِنْ رُفَقَائِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّرَهُ فِيهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute