وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا، لَمْ يُخَرَّجْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَإِنْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حَبَّانَ، فَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصِّحَّةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلِ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ سِوَى: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، فَمُنْكَرٌ عَنْهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا اشْتُهِرَ إِلَى أَنْ كَادَ أَنْ يَبْلُغَ الْيَقِينَ عَنْهُ فِي خِلَافِهِ، وَلِذَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ عَارَضَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ طَرِيقًا. أَنَّهُ «تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، وَفِي لَفْظٍ: «وَهُمَا مُحْرِمَانِ» . وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ قَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثَيْ عُثْمَانَ وَابْنِ الْأَصَمِّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْوَى مِنْهُمَا سَنَدًا، فَإِنْ رَجَّحْنَا بِاعْتِبَارِهِ كَانَ التَّرْجِيحُ مَعْنًى أَوْ بِقُوَّةِ ضَبْطِ الرُّوَاةِ وَفِقْهِهِمْ، فَإِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ لَيْسُوا كَمَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِقْهًا وَضَبْطًا، كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكْنَاهَا أَيِ الْأَدِلَّةَ تَسَاقَطَ لِلتَّعَارُضِ وَصِرْنَا إِلَى الْقِيَاسِ، فَهُوَ مَعْنِيٌّ لِأَنَّهُ عَقْدٌ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يُتَلَفَّظُ بِهِمَا مِنْ شِرَاءِ الْأُمَّةِ لِلتَّسَرِّي وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنَ الْعُقُودِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ حُرِّمَ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةَ نَفْسِ الْوَطْءِ وَأَثَرِهِ فِي فَسَادِ الْحَجِّ، لَا فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ رَجَّحْنَا مِنْ حَيْثُ الْمَتْنِ كَانَ مَعْنِيٌّ لِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَافِيَةٌ، وَرِوَايَةُ يَزِيدَ مُثْبِتَةٌ لِمَا عُرِفَ، وَأَنَّ الْمُثْبِتَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْحَلُّ طَارِئٌ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالنَّافِي هُوَ أَرْجَحُ لِمَنْعِهَا لِأَنَّهُ يَنْفِي طَرُوَ طَارِئٍ، وَلَا يَشُكُّ أَنَّ الْإِحْرَامَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلِّ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَهُ كَيْفِيَّاتٌ خَاصَّةٌ مِنَ التَّجَرُّدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، فَكَانَ نَفْيًا مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ، فَيُعَارَضُ الْإِثْبَاتُ وَيُرَجَّحُ بِخَارِجٍ، وَهُوَ زِيَادَةُ قُوَّةِ السَّنَدِ، وَفِقْهُ الرَّاوِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلِّ اللَّاحِقِ، وَأَمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْحَلِّ السَّابِقِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفَرِيِّ، فَابْنُ عَبَّاسٍ مُثْبِتٌ وَيَزِيدُ نَافٍ، وَيُرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَاتِ الْمَتْنِ لِتَرَجُّحِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، وَإِنْ وُفِّقْنَا لِدَفْعِ التَّعَارُضِ ; فَيَحْمِلُ لَفْظَ التَّزَوُّجِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْأَصَمِّ عَلَى الْبِنَاءِ بِهَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ» " إِمَّا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالنِّكَاحِ الْوَطْءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّمْكِينُ مِنَ الْوَطْءِ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ، أَيْ: لَا تُمَكِّنُ الْمُحْرِمَةُ مِنَ الْوَطْءِ زَوْجَهَا، أَوْ عَلَى نَهْيِ الْكَرَاهَةِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شُغُلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ عَنِ الْإِحْسَانِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خِطْبَةِ مُرَاوِدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ، وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: (وَلَا يَخْطُبْ) وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاشَرَ الْمَكْرُوهَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْكَرَاهَةُ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَلَا بَعْدُ لِاخْتِلَافِ حُكْمٍ فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فِيهِ وَفِينَا، كَالْوِصَالِ نَهَانَا عَنْهُ وَفَعَلَهُ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُخْتَصَرًا.
وَيُمْكِنُ حَمْلُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، بَلْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِرْسَالِ جَمَاعَةٍ إِلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ لِيَحْضُرَ نِكَاحَ مُحْرِمَيْنِ فَامْتَنَعَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، فَسَكَتُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute