للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْإِسْلَامِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَفَتَحَ أَكْثَرَ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّلَابَةِ وَكَمَالِ الشَّهَامَةِ وَمَتَانَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَخِلَافَتُهُ عَشْرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، ثُمَّ بُويِعَ لِعُثْمَانَ لِشَوْكَةِ أَقَارِبِهِ، وَبَسْطِ أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ فِي حُكُومَةِ الْأَطْرَافِ زَمَنَ عُمَرَ، فَلَوْ نُصِّبَ غَيْرُهُ لَوَقَعَ الْخِلَافُ، فَأَظْهَرَ فِي مُدَّةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً مَسَاعِيَ جَمِيلَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ بَعْدَ مَا كَانُوا يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى حَسَبِ السَّمَاعِ، وَبَعْثَ بِهِ إِلَى الْآفَاقِ، وَلِذَا نُسِبَ الْمُصْحَفُ إِلَيْهِ وَجُعِلَ إِمَامًا، ثُمَّ بُويِعَ بَعْدَهُ لِعَلِيٍّ الْمُرْتَضَى لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُمْ، وَسَيِّدُ بَنِي هَاشِمٍ مَا خَلَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْخِلَافَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ لَحُرِمَ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْمَشْكُورِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ اسْتَبَدَّ بِذِكْرِ هَذَا الْغَيْبِ وَقَالَ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَوَقَعَ كَمَا قَالَ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَمَّا ذِكْرُ سُنَّتِهِمْ فِي مُقَابَلَةِ سُنَّتِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُخْطِئُونَ فِيمَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ سُنَّتِهِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَهَا مَا اشْتَهَرَ إِلَّا فِي زَمَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْخِلَافَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى يُنَافِيَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (يَكُونُ فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً) بَلِ الْمُرَادُ تَصْوِيبُ رَأْيِهِمْ وَتَفْخِيمُ أَمْرِهِمْ، وَقِيلَ هُمْ وَمَنْ عَلَى سِيرَتِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِحْيَاءِ الْحَقِّ وَإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ (تَمَسَّكُوا بِهَا) أَيْ بِالسُّنَّةِ (وَعَضُّوا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى السُّنَّةِ (بِالنَّوَاجِذِ) جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الضِّرْسُ الْأَخِيرُ وَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَقِيلَ هُوَ النَّابُ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَكَامَلَتِ الْأَسْنَانُ فَهِيَ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ ثَنَايَا وَهِيَ أَوَائِلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ مُقَدَّمِ الْفَمِ ثُمَّ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ ثُمَّ أَرْبَعُ أَنْيَابٍ ثُمَّ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ ثُمَّ اثْنَا عَشَرَ أَضْرَاسًا وَهُوَ الطَّوَاحِنُ ثُمَّ أَرْبَعُ نَوَاجِذَ وَهِيَ أَوَاخِرُ الْأَسْنَانِ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَضْرَاسَ عِشْرُونَ شَامِلَةً لِلضَّوَاحِكِ وَالطَّوَاحِنِ وَالنَّوَاجِذِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْعَضُّ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةٍ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا أَخْذًا شَدِيدًا يَأْخُذُهُ بِأَسْنَانِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ كَمَنْ أَصَابَهُ أَلَمٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَهُ فَيَشْتَدُّ بِأَسْنَانِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَ حَالَ الْمُتَمَسِّكِ بِالسُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَيْهِ بِحَالِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يَسْتَعِينُ عَلَيْهِ اسْتِظْهَارًا لِلْمُحَافَظَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ تَحْصِيلَ السَّعَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ بَعْدَ مُجَانَبَةِ كُلِّ صَاحِبٍ يُفْسِدُ الْوَقْتَ، وَكُلِّ سَبَبٍ يَفْتِنُ الْقَلْبَ مَنُوطٌ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِأَنْ يَمْتَثِلَ الْأَمْرَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْإِخْلَاصِ، وَيُعَظِّمَ النَّهْيَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْخَوْفِ، بَلْ بِاقْتِفَاءِ آثَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، حَتَّى يُلْجِمَ النَّفْسَ بِلِجَامِ الشَّرِيعَةِ، وَيَتَجَلَّى فِي الْقَلْبِ حَقَائِقُ الْحَقِيقَةِ بِتَصْقِيلِهِ مِنْ مَفَاتِحِ الْأَخْلَاقِ وَتَنْوِيرِهِ بِأَنْوَارِ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْوِفَاقِ، وَتَعْدِيلِهِ بِإِجْرَاءِ جَمِيعِ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ حَتَّى يُحْدِثَ فِيهِ هَيْئَةً عَادِلَةً مَسْنُونَةً مِنْ آثَارِ الْفَضْلِ، يَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ رُوحُ اللَّهِ الْمَخْصُوصُ بِسُلُوكِ أَحْسَنِ الطَّرَائِقِ، هَذَا وَقِيلَ: تَمَسَّكُوا وَعَضُّوا فِعْلَا مَاضٍ صِفَتَانِ لِلْخُلَفَاءِ (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَعَلَيْكُمْ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ، أَيِ: احْذَرُوا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي أُحْدِثَتْ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَاتَّقُوا أَحْدَاثَهَا (فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ) ، أَيْ: فِي الشَّرِيعَةِ (وَكُلَّ بِدْعَةٍ) : بِنَصْبِ كُلَّ، وَقِيلَ: بِرَفْعِهِ (ضَلَالَةٌ) : إِلَّا مَا خُصَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>