وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ (وَالسَّمْعِ) ، أَيْ: وَبِسَمْعِ كَلَامِ الْخَلِيفَةِ وَالْأَئِمَّةِ (وَالطَّاعَةِ) : لِمَنْ يَلِي أَمْرَكُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ عَادِلًا كَانَ أَوْ جَائِرًا، وَإِلَّا فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ مُحَارَبَتُهُ (وَإِنْ كَانَ) ، أَيِ: الْمُطَاعُ يَعْنِي مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ (عَبْدًا حَبَشِيًّا) : فَأَطِيعُوهُ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى نَسَبِهِ بَلِ اتَّبِعُوهُ عَلَى حَسَبِهِ، وَلَفْظُ الْأَرْبَعِينَ: وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، أَيْ: صَارَ أَمِيرًا أَدْنَى الْخَلْقِ فَلَا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ طَاعَتِهِ، أَوْ وَلَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَأَطِيعُوهُ مَخَافَةَ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، فَعَلَيْكُمُ الصَّبْرَ وَالْمُدَارَاةَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَقِيلَ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ وَالْمُبَالَغَةِ عَلَى طَاعَةِ الْحُكَّامِ لَا التَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» " وَقِيلَ: ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ إِذْ لَا تَصِحُّ خِلَافَتُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ".
قُلْتُ: لَكِنْ تَصِحُّ إِمَارَتُهُ مُطْلَقًا، وَكَذَا خِلَافَتُهُ تَسَلُّطًا كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْحَبَشِيِّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَإِلَّا فَغَيْرُهُ كَالزِّنْجِيِّ أَخَسُّ مِنْهُ فَكَانَ أَنْسَبَ بِالْغَايَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَبَشِيِّ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَيَشْمَلُ الزِّنْجِيَّ وَالْهِنْدِيَّ ثُمَّ التُّرْكِيُّ يُعْلَمُ بِالْأَوْلَى (فَإِنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ: وَإِنَّهُ بِالْوَاوِ (مَنْ يَعِشْ) : بِالْجَزْمِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ: بِالرَّفْعِ (مِنْكُمْ بَعْدِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ جَعَلَ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِمَا قَبْلَهَا يَعْنِي مِنْ قَبْلِ وَصِيَّتِي وَالْتَزَمَ تَقْوَى اللَّهِ وَقَبِلَ طَاعَةَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُهَيِّجِ الْفِتَنَ أَمِنَ بَعْدِي مِمَّا يَرَى مِنَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ وَتَشَعُّبِ الْآرَاءِ وَوُقُوعِ الْفِتَنِ اهـ.
وَكَتَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ تَحْتَهُ: وَفِيهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ نَظَرِهِ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ ظُهُورِ وَجْهِ السَّبَبِيَّةِ، وَثَانِيهِمَا: عَدَمُ وُجُودِ الْأَنْسَبِيَّةِ بَلِ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَالْمَعْنَى الْزَمُوا مَا قُلْتُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي لَا مُخَلِّصَ لَهُ إِلَّا نَصِيحَتِي (فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ، أَيْ: مِنْ مِلَلٍ كَثِيرَةٍ كَلٌّ يَدَّعِي اعْتِقَادًا غَيْرَ اعْتِقَادِ الْآخَرِ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَوِ اخْتِلَافًا عَلَى الْمُلْكِ وَغَيْرِهِ كَثِيرًا يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَظُهُورِ الْمَعَاصِي وَوَلَايَةُ الْأَخِسَّاءِ حَتَّى الْعَبِيدِ (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي) : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، أَيْ: بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا (وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ) : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا (الْمَهْدِيِّينَ) ، أَيِ: الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: " «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» ". وَقَدِ انْتَهَتْ بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَوَصْفُ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعِرُهُمْ، الصِّدِّيقُ، وَالْفَارُوقُ، وَذُو النُّورَيْنِ، وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَوَاظَبُوا عَلَى اسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ السَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَخَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ السَّنِيَّةِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّئَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ، فَخَلَفَ الصِّدِّيقُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ لِحِلْمِهِ وَوَقَارِهِ وَسَلَامَةِ نَفْسِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ، وَالنَّاسُ مُتَحَيِّرُونَ، وَالْأَمْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَحَمَى بَيْضَةَ الدِّينِ، وَدَفَعَ غَوَائِلَ الْمُرْتَدِّينَ، وَجَمَعَ الْقُرْآنَ، وَفَتَحَ بَعْضَ الْبُلْدَانِ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ الْفَارُوقَ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَقِرٌّ وَالْقَوْمَ مُطِيعٌ وَالْفِتَنَ سَاكِنَةٌ، فَرَفَعَ رَايَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute