للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَذَا، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَنَا بِالنَّصِّ وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَدَّمَ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاسُوا حُكْمَ الصَّيْدِ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْقَاقِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُهُ وَلَا يَرْفَعُهُ، حَتَّى إِذَا ثَبَتَ حَالُ الْكُفْرِ ثُمَّ طَرَأَ إِسْلَامٌ لَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَلَنَا: أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ صَارَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ، كَمَا إِذَا دَخَلَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّعَرُّضُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِصَيْدِ الْحَرَمِ إِلَّا مَا كَانَ حَالًّا فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ فَوَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الرِّقِّ.

وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَعَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ دَلِيلَهُمْ أَضْعَفُ أَصْلًا.

وَمِنْهَا: فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَخَذَهُ كَانَ نَخْلٌ وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَخُرِّبَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ» . . الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: أَخَذَهُ أَيْ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، فَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ قَطْعُ نَخْلِ الْحَرَمِ، فَلَوْ كَانَ حَرَمًا لَمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ عَلَى أَصْلِهِمْ.

وَمِنْهَا: مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَبَالَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمَسْلَمَةَ: " «أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ تَصِيدَهُ بِالْعَقِيقِ لَشَيَّعْتُكَ إِذًا ذَهَبْتَ وَتَلَقَّيْتُكَ إِذَا جِئْتَ فَإِنِّي أُحِبُّ الْعَقِيقَ» " رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ فِي النُّخْبَةِ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَازُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَقِيقَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَزِيَادَةُ تَرْغِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَيْدِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ لِكَوْنِ لَحْمِهَا تَرَبَّى مِنْ نَبَاتِ الْمَدِينَةِ فَكَانَ لِلَحْمِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى لُحُومِ الصَّيْدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ لِثَمَرِهَا مَزِيَّةً عَلَى بَقِيَّةِ الْأَثْمَارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيْنَ كُنْتَ " قُلْتُ فِي الصَّيْدِ قَالَ: " أَيْنَ " فَأَخْبَرْتُهُ بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ وَقَالَ: " لَوْ كُنْتَ تَذْهَبُ إِلَى الْعَقِيقِ» " الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِيهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَكُلُوا مِنْ شَجَرَةٍ وَلَوْ مِنْ عِضَاهِهِ» ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَطْعٍ أَوْ قَلْعٍ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ أُحُدٍ مَنْعُ اسْتِحْبَابٍ لَا تَحْرِيمٍ، أَوْ كَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ لَا لِلْأَكْلِ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ وَلِتَتَوَفَّرَ الصُّيُودُ بِهَا فَنَهَاهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ إِرَادَةً لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، كَمَا قَالَ الْمُنَازِعُونَ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ صَيْدِ وَجٍّ وَأَشْجَارِهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَمَاهُ أَيْ وَادِي وَجٍّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الْكَلَأِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: وَلَا أَعْلَمُ لِتَحْرِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجًّا مَعْنًى إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحُمَّى لِنَوْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ قَالَ مَا حَاصِلُهُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ نُسِخَ، فَكَمَا أَوَّلُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَنَا أَنْ نُئَوِّلَ هَذَا، ثُمَّ إِنْ صَحَّ مُرَادُ التَّحْرِيمِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا كَوْنَ الْهِجْرَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً فَكَانَ يَفْعَلُهُ بَقَاءً لِزِينَتِهَا لِيَسْتَطِيبُوهَا وَيَأْلَفُوهَا، لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي زِينَتِهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ هَضْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مِنْ زِينَتِهَا، فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ زَالَ ذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا» ، فَإِنْ قِيلَ فَصَارَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا؛ أُجِيبُ فَعَادَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ مَعَ إِنَّهُ خِلَافُ الْمُرَادِ رَدًّا لِلْجَاهِلِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْمُجْتَهِدِ الْأَعْلَمِ الَّذِي صَارَ عِيَالُهُ فِي الْفِقْهِ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِكَوْنِهِ تَابِعِيًّا مِنْ بَيْنِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي حَقِّهِ: لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الْمَنْعِ أَوْ بَلَغَهُ فَخَالَفَهُ بِالرَّأْيِ وَالدَّفْعِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>