وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «لَا يُتَخَبَّطُ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ» " وَأَشْجَارُ حَرَمِ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ خَبْطُهَا بِحَالٍ، وَأَمَّا صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَإِنْ رَأَى تَحْرِيمَهُ نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا اصْطِيَادَ الطُّيُورِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهْيٌ مِنْ طَرِيقٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. اهـ. كَلَامُهُ.
وَأَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " أُحَرِّمُ " مِنَ الْحُرْمَةِ لَا مِنَ التَّحْرِيمِ ; بِمَعْنَى أُعَظِّمُ الْمَدِينَةَ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ نَقُولُ فَنُعَظِّمُهَا وَنُوَقِّرُهَا أَشَدَّ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ ; لَكِنْ لَا نَقُولُ بِالتَّحْرِيمِ ; لِعَدَمِ الْقَاطِعِ احْتِرَازًا عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ شِبْهُ التَّحْرِيمِ بِمَكَّةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى التَّعْظِيمِ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى مَا حَمَلْتُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: " كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ " فَقُلْتُمْ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا نُسَلِّمُ؟ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَّا عَنْ سَعْدٍ فَقَطْ، وَعَنْ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ سَلْبُ الْقَاطِعِ وَالصَّائِدِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ يَجِبُ هُنَاكَ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَمَا حَمَلْتُمْ عَلَى شَيْءٍ سَاغَ لَنَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: ٥٩] يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَخْلِيقُهُ بِغَيْرِ أَبٍ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَكَّةَ فِي تَحْرِيمِ التَّعْظِيمِ فَقَطْ لَا فِي التَّحْرِيمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْنَا يُدْفَعُ، وَدَفْعُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ مَهْمَا أَمْكَنَ بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى وَأَرْجَحَ بِلَا نِزَاعٍ، مَا أَبْعَدَ مَنِ اسْتَبْعَدَ وَهَذَا الْحَمْلُ مَعَ وُجُودِ فِعْلِ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَمِنْهَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ - غَيْرُ الشَّافِعِيِّ - فِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ صَيْدُوجَ وَعِضَاهَةً حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ وَقَطْعِ شَجَرِهِ، مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَأَوَّلُوهُ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى النَّسْخِ، فَكَذَا هَذَا مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ الَّذِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ جَوَابُنَا فِي هَذَا.
وَلِنُورِدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَتَمَسَّكُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهَا. فَمِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِأَبِي طَلْحَةَ ابْنٌ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَاحِكُهُ إِذَا دَخَلَ، وَكَانَ لَهُ طَيْرٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى أَبَا عُمَيْرٍ حَزِينًا فَقَالَ: " مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ؟ " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» " قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ صَيْدِهَا حُكْمُ صَيْدِ مَكَّةَ لَمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبْسَ النُّغَيْرِ، وَلَا اللَّعِبَ بِهِ كَمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ فِي وَضْعِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقَبَاءَ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ. قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتَهُ ; وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ قَبَاءَ لَيْسَتْ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَحْدِيدِ حَرَمِهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ، وَالْبَرِيدُ: أَرْبَعُ فَرَاسِخَ، وَقَبَاءُ لَا تَبْلُغُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَرْسَخًا. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ النُّغَيْرِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، أَوْ أَنَّهُ صَادَ مِنَ الْحِلِّ. قِيلَ لَهُ: هَذَا احْتِمَالُ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُ الرَّاوِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ غَيْرِهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَوْ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ لَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَصْلِنَا، لِأَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ عِنْدَنَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْنَا بَلْ عَلَيْهِمْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: طَاعِنًا فِينَا، وَلَكِنَّ أَصْلَهُمْ هَذَا ضَعِيفٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمُ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute