وَبِحُصُولِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ تِجَارَةً: وَمِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى النَّاسِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِمْ مِنْ حَوْلِ ثِيَابِهِمْ وَخِيَاطَتِهِمْ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَحْصُلُ بِالسَّعْيِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَزَرْعِ الْأَقْوَاتِ وَالثِّمَارِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَغِلَ الْكَاسِبُ بِهِ فَيَسْلَمَ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ. وَمِنْهَا: كَسْرُ النَّفْسِ بِهِ فَيَقِلُّ طُغْيَانُهَا وَمَرَحُهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْغَيْرِ، وَشَرْطُ الْمُكْتَسِبِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ الزِّرْقَ مِنَ الْكَسْبِ، بَلْ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ الرَّزَّاقِ ذِي الْقُوَّةِ الْمَتِينِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: " وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ " الْخَ. تَوْكِيدٌ لِلتَّحْرِيضِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ يَعْنِي: الِاكْتِسَابُ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَعْمَلُ السَّرْدَ وَيَبِيعُهُ لِقُوتِهِ فَاسْتَنُّوا بِهِ. اهـ.
وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ فِي خِلَافَتِهِ يَتَجَسَّسُ النَّاسَ فِي أَمْرِهِ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ كَيْفَ سِيرَةُ دَاوُدَ فِيكُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ دَاوُدُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ رَبَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وَيَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا وَيَبِيعُهُ بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُنْفِقُ أَلْفَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبَاحٌ إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَخْرَ وَالتَّكَاثُرَ، وَقِيلَ: الِاشْتِغَالُ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرِفَةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي الْكَسْبَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا الْمَفْرُوضَةُ، وَهِيَ أَيْضًا غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute