للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نَصٌّ عَلَى حُرْمَتِهِ، كَالْفَوَاحِشِ وَالْمَحَارِمِ وَمَا فِيهِ حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مُهِّدَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ نَحْوُ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " (وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ غَيْرُ مُبَيَّنَةٍ لِكَوْنِهَا ذَاتَ جِهَةٍ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، (لَا يَعْلَمُهُنَّ) : أَيْ: حَقِيقَتَهُنَّ (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : لِتَعَارُضِ الْأَمَارَتَيْنِ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ تَرْجِيحِ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: جُمْلَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُعَارِضَةِ فِي الْأُمُورِ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ فِي تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ، وَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهُ إِلَّا بِيَقِينِ عِلْمٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ: حَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ، وَحَدِيثُ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَّهَ فِيهِ عَلَى صَلَاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا بِأَنْ يَكُونَ حَلَالًا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ بِأَنْ أَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى، وَأَتَمَّ ذَلِكَ بَيَانُ مَنْبَعِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَمَعْدِنِهِمَا، فَقَوْلُهُ: " الْحَلَالُ بَيِّنٌ " الْخَ. مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: حَلَالٌ بَيِّنٌ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالنَّظَرُ وَالنِّكَاحُ وَالْمَشْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. وَحَرَامٌ بَيِّنٌ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَالْكَذِبُ وَالْغَيْبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ، وَإِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُبِهَ عَلَى النَّاظِرِ بِأَيِّهِمَا يَلْحَقُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ "، وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِهِ صَارَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، فَإِذَا فَقَدَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ) : أَيِ: اجْتَنَبَهَا (اسْتَبْرَأَ) : أَيْ: بَالَغَ فِي الْبَرَاءَةِ أَوْ حَصَّلَ الْبَرَاءَةَ بِالصِّيَانَةِ (لِدِينِهِ) : مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ (وَعِرْضِهِ) : مِنْ كَلَامِ الطَّاعِنِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَخْرَجٌ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُحْكُمَ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وَلَا إِبَاحَةٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ التَّحْرِيمُ، وَالثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ. (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ) : أَيْ: هَجَمَ عَلَيْهَا وَتَخَطَّى خُطَطَهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ دُونَهَا (وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ السُّقُوطُ فِيهِ، وَكُلُّ سُقُوطٍ شَدِيدٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ تَعَاطِي الشُّبَهَاتِ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَدْهُ، وَقَدْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ إِذَا قَصَّرَ فِي التَّحَرِّي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ، وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ، وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ مِنْهَا وَهَلُمَّ جَرَّا، إِلَى أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَمْدًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمُ: الْمَعَاصِي تَسُوقُ إِلَى الْكُفْرِ، (كَالرَّاعِي) : ضَرْبُ مَثَلٍ، وَفَائِدَتُهُ تَجْلِيَةُ الْمَعَانِ الْمَعْقُولَةِ بِصُوَرِ الْمَحْسُوسَاتِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ، وَلَهُ شَأْنٌ عَجِيبٌ فِي إِبْرَازِ الْحَقَائِقِ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنْ وُجُوهِ الدَّقَائِقِ، وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى: حَالُ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، كَحَالِ الرَّاعِي أَيِ: الرَّاتِعِ (يَرْعَى) : صِفَةُ الرَّاعِي لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا (حَوْلَ الْحِمَى) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ مِيمٍ مُخَفَّفَةٍ، وَهُوَ الْمَرْعَى الَّذِي يَحْمِيهِ السُّلْطَانُ مِنْ أَنْ يَرْتَعَ مِنْهُ غَيْرُ رُعَاةِ دَوَابِّهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ " «لَا حِمًى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» " (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ وَيَسْرُعُ (أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْحِمَى بِنَاءً عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى الرَّعْيِ، وَعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ عِقَابَ الْمَلِكِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَفِي لَفْظِ: أَنْ يُوَاقِعَهُ، فَالرَّاعِي يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى مَنْ يَرْعَى الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ وَنَحْوَهَا. (أَلَا) : مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ النَّفْيِ، لِإِعْطَاءِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا (وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ) : أَيْ: عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، أَوْ إِخْبَارٌ عَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>