يَكُونُ عَلَيْهِ ظُلَمَةُ الْإِسْلَامِيَّةِ (حِمًى) : يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ الَّتِي تَسَمَّى النُّحَاةُ الِاسْتِئْنَافِيَّةَ عَلَى انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فِي الْجُلِّ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِهِ: (أَلَا) أُنَبِّهَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: (إِن لِكُلِّ مَلِكٍ) (حَقًّا) ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ الْعَطْفُ، إِذْ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْمُفْرَدُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: ٩٦] (أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) : وَهِيَ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي، فَمَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْهَا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا مَا لَا يُغْفَرُ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ شَبَّهَ الْمَحَارِمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَمْنُوعٌ التَّبْسِيطُ فِيهَا بِحِمَى السُّلْطَانِ، وَلَمَّا كَانَ التَّوَرُّعُ وَالتَّهَتُّكُ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ مَيَلَانَ الْقَلْبِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ) وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ بِهَا لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْجَسَدِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ، مَعَ أَنَّ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لَهُ. (إِذَا صَلَحَتْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، فَالْأَوَّلُ أَوْ صَحَّ أَيْ: إِذَا تَنَوَّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْإِيقَانِ (صَلُحَ الْجَسَدُ) : أَيْ: أَعْضَاؤُهُ (كُلُّهُ) : بِالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ " وَإِذَا فَسَدَتْ " بِفَتْحِ السِّينِ وَقِيلَ ضَمُّهَا أَيْضًا أَيْ: (إِذَا تَلَفَتْ وَأَظْلَمَتْ بِالْجُحُودِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ (فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ) : أَيْ: بِالْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا وَيَمْنَعَهَا عَنِ الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ، حَتَّى لَا يُغَادِرَ إِلَى الشُّبَهَاتِ، وَلَا يَسْتَعْمِلَ جَوَارِحَهُ بِاقْتِرَافِ الْمُحَرَّمَاتِ. (وَأَلَا وَهِيَ) : أَيِ الْمُضْغَةُ الْمَوْصُوفَةُ (الْقَلْبُ) : فَهُوَ كَالْمَلِكِ، وَالْأَعْضَاءُ كَالرَّعِيَّةِ، فَأَهَمُّ الْأُمُورِ مُرَاعَاتُهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ إِرَادَةٌ صَالِحَةٌ تَحَرَّكُ الْجَسَدُ حَرَكَةً صَالِحَةً وَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قِيلَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَالْقَلْبُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ إِلَى عَكْسِهِ، وَمِنْهُ الْقَلْبُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ: «إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ". وَلِهَذَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ". وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
وَلَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُضْغَةُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الصَّدْرِ، وَهُوَ مَحَلُّ اللَّطِيفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ اللَّطِيفَةُ النُّورَانِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْعَالِمَةُ الَّتِي هِيَ مَهْبِطُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِهَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَبِهَا يَسْتَعِدُّ لِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَبِهَا صَلَاحُ الْبَدَنِ وَفَسَادُهُ، وَهِيَ خُلَاصَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنَ الرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ. قَالَ - تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: ٧] وَالرُّوحُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: ٨٥] وَهُوَ مَقَرُّ الْإِيمَانِ " {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: ٢٢] "، كَمَا أَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ الْإِسْلَامِ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: ٢٢] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمُشَاهَدَةِ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: ١١] " وَاللُّبُّ مَقَامُ التَّوْحِيدِ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: ١٩] الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ قِشْرِ الْوُجُودِ الْمُجَازَيِّ، وَبَقُوا بِلُبِّ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَمَا هِيَ مُتَعَذَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْحَقَائِقِ مُتَعَسِّرَةٌ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَهُ إِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَتَغَذَّى بِالْحَلَالِ فَيَصْفُو، وَيَتَأَطَّرُ الْقَلْبُ بِصَفَائِهِ وَيَتَنَوَّرُ، فَيَنْعَكِسَ نُورُهُ إِلَى الْجَسَدِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِصَلَاحِهَا، وَإِذَا تَغَذَّى بِالْحَرَامِ يَصِيرُ مَرْتَعًا لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ، فَيَتَكَدَّرُ وَيَتَكَدَّرُ الْقَلْبُ فَيُظْلِمُ، وَتَنْعَكِسُ ظُلْمَتُهُ إِلَى الْبَدَنِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِهَا. هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَخُلَاصَةُ تَحْقِيقِ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute