للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

شَدِيدًا فِي أَمْرِ اللَّهِ، عَاقِلًا مُجْتَهِدًا صَابِرًا مُحْتَسِبًا، جُعِلَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِهِ، وَأُعِزَّ الدِّينُ بِهِ، وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِهِ، وَلَهُ فَضَائِلُ لَا تُحَدُّ، وَشَمَائِلُ لَا تُعَدُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(١) [ ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) ] قِيلَ: كَلِمَةُ: (إِنَّمَا) بَسِيطَةٌ. وَقِيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِنْ: أَنَّ، وَمَا الْكَافَّةِ، أَوِ الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَنَّ، وَمَا النَّافِيَةِ فَهِيَ عَامِلَةٌ بِرُكْنَيْهَا إِيجَابًا، وَنَفْيًا فَبِحَرْفِ التَّحْقِيقِ يَثْبُتُ الشَّيْءُ، وَبِحَرْفِ النَّفْيِ يُنْفَى مَا عَدَاهُ، وَمَا اعْتَرَاضٌ عَلَيْهِ مِنْ لُزُومِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ: أَنَّ، وَمَا كِلَاهُمَا يَقْتَضِي الصَّدَارَةَ - مَدْفُوعٌ بِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ التَّرْكِيبِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ صَارَ عَلَمًا مُفْرَدًا عَلَى إِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَتَضَاعِيفُهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَأْكِيدٍ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْأُصُولِ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ النُّحَاةِ لِصِحَّةِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ فِي جَوَابِ هَلْ قَامَ عَمْرٌو؟ كَمَا يُجَابُ بِـ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَلِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: ١٢] وَ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: ٩٩] وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَتُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي الْحُكْمَ عَنْ غَيْرِهِ فِي نَحْوِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ أَيْ: لَا عَمْرٌو، أَوْ غَيْرُ الْحُكْمِ عَنِ الْمَذْكُورِ فِي نَحْوِ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ أَيْ: لَا قَاعِدٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ: ( «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ) فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الْآخِذِينَ بِقَضَيَّتِهِ لَمْ يُعَارِضْهُمْ جُمْهُورُهُمُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ بِأَنَّ إِنَّمَا لَا تُفِيدُهُ، وَإِنَّمَا عَارَضُوهُمْ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى كَحَدِيثِ: ( «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلِ» "، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - لِمَا تَفَرَّدَ بِهِ قِيلَ: وَرَجَعَ عَنْهُ لَمَّا اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَيْهِ - بِخَبَرِ: ( «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ) ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ الصَّحَابَةُ فِيهِ، بَلْ عَارَضُوهُ فِي الْحُكْمِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْتَبَرُ إِذَا كَانَتْ بِنِيَّةٍ، وَلَا تُعْتَبَرُ إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ ; فَتَصِيرُ إِنَّمَا بِمَعْنَى مَا وَإِلَّا. وَقِيلَ: الْحَصْرُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ ; فَإِنَّهُ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَصْرِ، فَالْمَعْنَى لَيْسَتِ الْأَعْمَالُ حَاصِلَةً بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَا نَفْيُ نَفْسِ الْأَعْمَالِ لِثُبُوتِهَا حِسًّا، وَصُورَةً مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ النَّفْيُ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ. فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ صَحِيحَةٌ، أَوْ تَصِحُّ كَمَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ. وَقِيلَ: كَامِلَةٌ، أَوْ تَكْمُلُ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ: مُعْتَبَرَةٌ، أَوْ تُعْتَبَرُ ; لِيَشْمَلَ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ عِبَادَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ لِصِحَّتِهَا إِجْمَاعًا، أَوْ شُرُوطًا فِي الطَّاعَاتِ كَالطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ لِحُصُولِ ثَوَابِهَا اتِّفَاقًا ; لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الشُّرُوطِ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصِّحَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الطَّهَارَةِ فَعَلَيْهِ بَيَانُ الْفِرْقِ، أَوْ أُمُورًا مُبَاحَةً فَإِنَّهَا قَدْ تَنْقَلِبُ بِالنِّيَّاتِ حَسَنَاتٍ كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَنْقَلِبُ سَيِّئَاتٍ بِلَا خِلَافٍ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصِّحَّةِ، وَالْكَمَالِ يُعْرَفُ مِنَ الْخَارِجِ، وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ جَمْعٌ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ عَمَلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَيَشْمَلُ الْمَتْرُوكَاتِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِي تَرْكِ الزِّنَا، وَالْغَصْبِ، وَنَحْوِهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً بِدُونِهَا، وَكَانَ هَذَا مَلْحَظَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ، ثُمَّ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ. وَقِيلَ لِلْمُصَاحَبَةِ لِيَعْلَمَ مِنْهُ وُجُوبَ الْمُقَارَنَةِ لَكِنَّهَا تُشْعِرُ بِوُجُوبِ اسْتِصْحَابِهَا إِلَى آخِرِ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ الْمَعِيَّةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. نَعَمْ، يُشْتَرَطُ اتِّفَاقًا اسْتِصْحَابُهَا مَعَ الْعَمَلِ حُكْمًا بِأَنْ لَا يُنْشِئَ مُنَافِيًا، وَأَيْضًا تُشِيرُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقَدُّمِهَا عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَ أَفْرَادِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَبِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ فَالْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى، وَأَوْقَاتُ النِّيَّاتِ فِي الْعِبَادَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، مَحَلُّ بَسْطِهَا الْكُتُبُ الْفِقْهِيَّةُ، وَالنِّيَّةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ لُغَةً: الْقَصْدُ، وَشَرْعًا: تَوَجُّهُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْفِعْلِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالْقَصْدُ بِهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ فَإِنْ قِيلَ: النِّيَّةُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَبِتَسَلْسُلٍ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَبِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْمُعْتَبَرِ: ( «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ) ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْعُرْفِ لَا يُطْلَقُ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِ النَّاوِي اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>