وَفِيهِ: أَنَّ سَائِرَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَا تُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَمَلُ النِّيَّةُ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ الْجَارِحَةِ لِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْحُجَّةُ فِي الْإِحْيَاءِ. وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ مَعَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ اسْتِثْنَاءُ النِّيَّةِ، وَكَذَا الْأُمُورُ الِاعْتِقَادِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ النِّيَّةَ بِاللِّسَانِ مَعَ غَفْلَةِ الْجَنَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَنِيَّاتِكُمْ، فَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ بِقَلْبِهِ فِي وَقْتِهِ، وَتَلَفَّظَ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاللِّسَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّلَفُّظِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ يَكُونُ إِمَامًا، أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَبٌّ لِيَسْهُلَ تَعَقُّلُ مَعْنَى النِّيَّةِ، وَاسْتِحْضَارُهَا. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَيَحْسُنُ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ: أُصَلِّي كَذَا، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، بَلِ الْمَنْقُولُ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ اهـ. قَالَ: وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاجْتِمَاعِ عَزِيمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ لِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ خَاطِرِهِ فَإِذَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ كَانَ عَوْنًا عَلَى جَمْعِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي التَّجْنِيسِ. قَالَ: وَالنِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ عَمَلُهُ، وَالتَّكَلُّمُ لَا مُعْتَبِرَ بِهِ، وَمَنِ اخْتَارَهُ لِتَجْتَمِعَ عَزِيمَتُهُ اهـ. كَلَامُهُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَالْمُتَابَعَةُ كَمَا تَكُونُ فِي الْفِعْلِ تَكُونُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، فَمَنْ وَاظَبَ عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَفْعَلْهُ الشَّارِعُ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَقَدْ يُقَالُ: نُسَلِّمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ اسْتَحَبَّهَا الْمَشَايِخُ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَصْحَابُهُ لَمَّا كَانُوا فِي مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْحُضُورِ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الِاسْتِحْضَارِ الْمَذْكُورِ، وَقِيلَ: التَّلَفُّظُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَلَطِ، وَالْخَطَأِ، وَمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَهُ مَحْمَلٌ عِنْدَنَا مُخْتَصٌّ بِمَنِ ابْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي تَحْصِيلِ النِّيَّةِ، وَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا فَإِنَّهُ قِيلَ فِي حَقِّهِ إِذَا تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ سَقَطَ عَنْهُ الشَّرْطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَطَقَ بِالنِّيَّةِ فِي الْحَجِّ فَقِسْنَا عَلَيْهِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ. قُلْنَا لَهُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ، ثُمَّ انْقُشْ مِنْ جُمْلَةِ الْوَارِدَاتِ فَإِنَّهُ مَا وَرَدَ نَوَيْتُ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ إِلَخْ، وَهُوَ دُعَاءٌ، وَإِخْبَارٌ لَا يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ إِلَّا بِجَعْلِهِ إِنْشَاءً، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْقَصْدُ الْإِنْشَائِيُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ، مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ جَعْلُهُ مَقِيسًا عَلَيْهِ مُحَالٌ، ثُمَّ قَالَ: وَعَدَمُ وُرُودِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. قُلْنَا: هَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُقُوعِهِ حَتَّى يُوجَدَ دَلِيلُ وُرُودِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبَّرَ فَلَوْ نَطَقَ بِشَيْءٍ آخَرَ لَنَقَلُوهُ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ( «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» ) فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ التَّلَفُّظِ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِلْبُخَارِيِّ: هَلْ تَقُولُ شَيْئًا قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَقَالَ: لَا. انْتَهَى.
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ بَقِيَّةِ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَيْضًا فَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إِجْمَاعًا، وَالنَّقْلُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ طُولَ عُمُرِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَتَى فِي نَحْوِ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ مَعَ النُّطْقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تَرَكَهُ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ الْمُكَمَّلَ عَدَمُ النُّطْقِ بِالنِّيَّةِ مَعَ أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: بِكَرَاهَتِهِ، وَالْحَنْبَلِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مَحَلُّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ تَرْكُهُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ بِلَا رَيْبٍ فَقَوْلُهُ: وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ الَّذِي يَتَحَيَّرُ فِيهِ أُولُو الْأَلْبَابِ حَيْثُ جَعَلَ الْوَهْمَ يَقِينًا، وَثُبُوتَ الْحُفَّاظِ رَيْبًا، لَا يُقَالُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute