قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَبُولُ دَعْوَاهُ سَبْقَ اللِّسَانِ هُنَا، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فَيُنَافِيهِ مَا مَرَّ فِي نَحْوِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاطِنِ فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَاطِنًا فِيهِمَا حَيْثُ سَبَقَ لِسَانُهُ، وَأَمَّا ظَاهِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَا الْكُفْرُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَيُحْتَمَلُ قَبُولُهُ فِيهِ ظَاهِرًا مُطْلَقًا، وَيُفَرِّقُ بِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ اللَّهِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِبِنَاءِ حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ وَطِئَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ قَتَلَ يَظُنُّ الْحَلِيلَةَ [وَنَحْوَ الْمَاءِ، وَغَيْرَ الْمَعْصُومِ] فَبَانَ مُحَرَّمًا لَا يَأْثَمُ، وَفِي عَكْسِهِ يَأْثَمُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْتَثْنَى بَعْضَ الْأَعْمَالِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الشَّارِعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِمَنْزِلَةِ النِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالْجَوَازِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[ (وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ) ] أَيِ: الشَّخْصِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ [ (مَا نَوَى) ] أَيْ: جَزَاءَ الَّذِي نَوَاهُ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ شَرٍّ، أَوْ جَزَاءَ عَمَلٍ نَوَاهُ، أَوْ نِيَّتِهِ دُونَ مَا لَمْ يَنْوِهْ، أَوْ نَوَاهُ غَيْرُهُ لَهُ، فَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا تُثْمِرُهُ النِّيَّةُ مِنَ الْقَبُولِ، وَالرَّدِّ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ، وَعَدَمِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْعَمَلِ قَبُولُهُ، وَوُجُودُ ثَوَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: ٢٧] فَفَهِمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً بِالْإِخْلَاصِ، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنَفْسِ الْعَمَلِ، وَفِي الثَّانِي مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى مَا لِأَجْلِهِ الْعَمَلُ مِنَ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: هَذِهِ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى تَنْبِيهًا عَلَى سِرِّ الْإِخْلَاصِ، وَنُوقِشَ بِأَنَّ تَنْبِيهَهَا عَلَى ذَلِكَ يَمْنَعُ إِطْلَاقَ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ الْعِبَادَاتُ، وَبِالثَّانِي الْأُمُورُ الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْمَثُوبَاتِ إِلَّا إِذَا نَوَى بِهَا فَاعِلُهَا الْقُرُبَاتِ كَالْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَنَاكِحِ، وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ إِذَا نَوَى بِهَا الْقُوَّةَ عَلَى الطَّاعَاتِ لِاسْتِيفَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَكَالتَّطَيُّبِ إِذَا قَصَدَ إِقَامَةَ السُّنَّةِ، وَدَفْعَ الرَّائِحَةِ الْمُؤْذِيَةِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْهُ لِدَاعِي الْحَقِّ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَكَذَا الْمَتْرُوكَاتُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَثُوبَاتُ إِلَّا بِالنِّيَّاتِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّ بِكُثْبَانِ رَمْلٍ فِي مَجَاعَةٍ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كَانَ هَذَا الرَّمْلُ طَعَامًا لَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ، وَشَكَرَ حُسْنَ صَنِيعِكَ، وَأَعْطَاكَ ثَوَابَ مَا لَوْ كَانَ طَعَامًا فَتَصَدَّقْتَ بِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِعْلَامِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَابِ تَعْيِينِ الْمَنْوِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْفَائِتَةِ مِنْ كَوْنِهَا ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا، وَلَوْلَاهُ لَدَلَّ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَا تَعْيِينٍ، أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ اهـ.
وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا ذَا وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ مِنَ الْقُرُبَاتِ كَالتَّصْدِيقِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَكُونُ جَارًا لَهُ، وَفَقِيرًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْإِحْسَانَ، وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِذَا نَوَى جَمِيعَ الْجِهَاتِ فَعُلِمَ سِرُّ تَأْخِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَتَانِ، قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ نِيَّةَ الْخَاصِّ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ الْعَامِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: (الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ) إِلَخْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: النِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ لِيَحْسُنَ تَطْبِيقُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَتَقْسِيمُهُ بِقَوْلِهِ: [ (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَ) ] : إِلَى [ (رَسُولِهِ) ] : فَإِنَّهُ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ، وَاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودِ عَمَّا أَصَّلَهُ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تُحْسَبُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ إِنْ كَانَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ فَهِيَ لَهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ لِلدُّنْيَا فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَهِيَ لِذَلِكَ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْوِيَّهُ مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ مُبَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ مِنَ الْهَجْرِ، وَهُوَ التَّرْكُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ، وَالْمُرَادُ هَنَا تَرْكُ الْوَطَنِ الَّذِي بِدَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَهِجْرَةِ الصَّحَابَةِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمْ أَذَى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْهَا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبَعْدَهَا، وَلَمَّا احْتَاجُوا إِلَى تَعَلُّمِ الْعُلُومِ مِنْ أَوْطَانِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ تُطْلَقُ كَمَا فِي أَحَادِيثَ عَلَى هِجْرَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مَعْنَاهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute