هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ، وَهَجْرُ الْمَرْأَةِ مَضْجَعَ زَوْجِهَا، وَعَكْسُهُ، وَمِنْهَا الْهِجْرَةُ مِنْ دِيَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى بِلَادِ السُّنَّةِ، وَالْهِجْرَةُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَتَرْكُ الْوَطَنِ لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ، وَفِي مَعْنَاهُ الِاعْتِزَالُ عَنِ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ) مَحْمُولٌ عَلَى خُصُوصِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ) . وَالْمُرَادُ الْمُهَاجِرُ الْكَامِلُ. وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ: ( «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ» ) قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِذِكْرِ الْمَرْأَةِ، وَحِكَايَةِ أَمِّ قَيْسٍ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمَعْنَى مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى رِضَاهُ لَا يَخْلِطُهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ النِّيَّةِ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تُوْطِئَةً لِذِكْرِ الرَّسُولِ تَخْصِيصًا لَهُ بِاللَّهِ، وَتَعْظِيمًا لِلْهِجْرَةِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ لِلتَّزْيِينِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: ٨٠] فِي الثَّابِتِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ إِعَادَةُ الْجَارِّ فِي الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ الِاسْتِقْلَالَ فِي الْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهِجْرَتَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ الْأُخْرَى فِي مَرْتَبَةِ الْقَبُولِ: [ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَ) ] : إِلَى [ (رَسُولِهِ) ] : لَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا اسْتِلْذَاذًا بِتَكْرِيرِ اسْمِهِمَا، " وَإِلَى " مُتَعَلِّقَةٌ بِهِجْرَتِهِ إِنْ قُدِّرَتْ " كَانَتْ " تَامَّةً، وَبِمَحْذُوفٍ هُوَ خَبَرُهَا إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَيْ: مُنْتَسِبَةً إِلَيْهِمَا، وَالْمُرَادُ أَصْلُ الْكَوْنِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى زَمَنٍ مَخْصُوصٍ، أَوْ وَضْعُهُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْمُضِيِّ، أَوْ هُنَا مِنَ الِاسْتِقْبَالِ لِوُقُوعِهَا فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ لَفْظًا، أَوْ مَعْنًى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا لِمَانِعٍ، ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ قَصْدًا، وَنِيَّةً فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ ثَمَرَةً، وَمَنْفَعَةً، فَهُوَ تَمْيِيزٌ لِلنِّسْبَةِ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِلْقَرِينَةِ، وَقِيلَ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ الْجَزَائِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَهِجْرَتُهُ مَقْبُولَةٌ، أَوْ صَحِيحَةٌ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبُ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ مُقَدَّرٌ مِنْ طَرَفِ الْجَزَاءِ أَيْ: فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ مَقْبُولَةٌ أَيْ: فَهِيَ كَمَا نَوَاهَا، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ وَصَلَ إِلَى الْفَرِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: ١٠٠] وَقِيلَ: اتِّحَادُ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَلِإِرَادَةِ التَّحْقِيرِ فِيمَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ التَّغَايُرُ مَعْنًى بِدَلِيلِ قَرَائِنِ السِّيَاقِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَوَّلِ مَا وُجِدَ خَارِجًا، وَبِالثَّانِي مَا عُهِدَ ذِهْنًا عَلَى حَدِّ: أَنْتَ أَنْتَ أَيِ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ، وَهُمْ هُمْ أَيِ: الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُمْ، وَمِنْهُ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ، وَشِعْرِي شِعْرِي. أَيْ: الْآنَ هُوَ شِعْرِي الَّذِي كَانَ، وَالْكِبَرُ مَا غَيَّرَ اللِّسَانَ، وَالْحَاصِلُ أَنْ يُقَالَ: فَهِجْرَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَنَتِيجَتُهَا جَسِيمَةٌ. [ (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا) ] : بِضَمِّ الدَّالِّ، وَيُكْسَرُ، وَهِيَ فُعْلَى مَنِ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَالِ، أَوْ لِقُرْبِهَا مِنَ الْآخِرَةِ مِنَّا، وَلَا تُنَوَّنُ لِأَنَّ أَلِفَهَا مَقْصُورَةٌ لِلتَّأْنِيثِ، أَوْ هِيَ تَأْنِيثُ أَدْنَى، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ، وَتَنْوِينُهَا فِي لُغَةٍ شَاذٌّ، وَلِإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَلِخَلْعِهَا عَنِ الْوَصْفِيَّةِ نُكِّرَتْ كَرُجْعَى، وَلَوْ بَقِيَتْ عَلَى وَصْفِيَّتِهَا لَعُرِّفَتْ كَالْحُسْنَى، وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَقِيلَ: وَهِيَ اسْمُ مَجْمُوعِ هَذَا الْعَالَمِ الْمُتَنَاهِي، فَفِي الْقَامُوسِ الدُّنْيَا نَقِيضُ الْآخِرَةِ، وَلَوْ قَالَ ضِدَّهَا لَكَانَ أَوْلَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ جَوَازِ أَنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَوِّ، وَالْهَوَاءِ، أَوْ هِيَ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالْأَعْرَاضِ الْمَوْجُودَةِ قَبْلَ الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا، وَأُرِيدُ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنَ الْحُظُوظِ النَّفْسَانِيَّةِ كَمَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَقَدْ تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْعَاجِلِ، وَالْمَرْأَةُ إِيمَاءٌ إِلَى الْآجِلِ، وَهُوَ الْآخِرَةُ لِانْضِمَامِ الرُّوحَانِيَّةِ إِلَى الْجُسْمَانِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ أَنَّ قَصْدَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ انْحِطَاطٌ تَامٌّ عَمَّنْ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ وَجْهِهِ تَعَالَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَعِنْدَ مُحَقِّقِي الْقَوْمِ مَا تَعَلَّقَ دَرْكُهُ بِالْحِسِّ، فَهُوَ دُنْيَا، وَمَا تَعَلَّقَ دَرْكُهُ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ أُخْرَى، وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا أَيْ: لِأَجْلِ عَرَضِهَا، وَغَرَضِهَا فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ بِمَعْنَى (إِلَى) لِتُقَابِلَ الْمُقَابِلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute