يُرِدْ بِهِ الِاشْتِرَاطَ فِي الرِّضَاعِ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّدْيِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذِكْرُ الْفَتْقِ وَالْمَعَى وَالثَّدْيِ مَزِيدٌ لِإِرَادَةِ الرِّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ تَأْثِيرًا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (وَكَانَ) أَيْ: الرِّضَاعُ (قَبْلَ الْفِطَامِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ زَمَنَ الْفِطَامِ الشَّرْعِيِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) فِي الْهِدَايَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْمُدَّةِ حَتَّى لَوْ فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِيهَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَّ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا فُطِمَ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَصَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِغَيْرِ اللَّبَنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إِذَا رَضَعَ فِيهَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قِيلَ: لَا لِأَنَّهُ جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ وَقَدِ انْدَفَعَتْ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي وَأَهْلُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ لِلَبَنِ الْبِنْتِ أَيِ الَّذِي نَزَلَ بِسَبَبِ بِنْتٍ مُرْضِعَةٍ نَفْعًا لِلْعَيْنِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الرَّمَدُ، وَلَا يُخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ مُتَعَذِّرَةٌ فَالْمُرَادُ إِذَا غُلِبَ عَلَى الظَّنِّ وَإِلَّا فَهُوَ مَعْنَى الْمَنْعِ ثُمَّ إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الرِّضَاعِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرِّضَاعِ تَحْرِيمٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ أَبَدًا لِلْإِطْلَاقَاتٍ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسًا وَلِحَدِيثِ سَهْلَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتْ سَهْلَةُ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِينَ بِهَا عَلَيْهِ» ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا وَكَذَا السُّنَنُ الْمَشْهُورَةُ وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُطْلَقًا مَنْسُوخٌ صَرَّحَ بِنَسْخِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحْرِّمُ، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: آلَ أَمْرُ الرَّضَاعَةِ إِلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ ثُمَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ أَنْ تُشْبِعَ سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي خَمْسِ أَوْقَاتٍ مُتَفَاصِلَاتٍ جَائِعًا لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُشْبِعُهُ مِنَ اللَّبَنِ رِطْلٌ وَلَا رِطْلَانِ فَأَيْنَ تَجِدُ الْآدَمِيَّةُ فِي ثَدْيِهَا قَدْرَ مَا يُشْبِعُهُ هَذَا مُحَالٌ عَادَةً. فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْدُودَ خَمْسٍ فِيهِ الْمَصَّاتُ ثُمَّ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُبَاشِرَ عَوْرَتَهَا بِشَفَتَيْهِ؟ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ تَحْلِبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدَارَ خَمْسٍ فَيَشْرَبُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ إِذَا عَرَفَتْ هَذَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَانَ ثُمَّ نُسِخَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ تَقَيَّدَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ» " رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ " «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ» " يُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَحْيَاهُ، وَبِالزَّايِ أَيْ رَفَعَهُ، وَبِزِيَادَةِ الْحَجْمِ يَرْتَفِعُ وَفِي الْمُوَطَّأِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إِنِّي مَصَصْتُ عَنِ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي. قَالَ أَبُو مُوسَى: لَا أَرَاهَا إِلَّا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: انْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا رَضَاعَةَ إِلَّا مَا كَانَ فِي حَوْلَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُوَطَّأِ. فَرُجُوعُهُ إِلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّصُوصِ الْمُطْلِقَةِ وَعَمَّا أَفْتَاهُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِذِكْرِهِ النَّاسِخِ لَهُ أَوْ لِتَذَكُّرِهِ عِنْدَهُ وَغَيْرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ: لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً. وَلَعَلَّ سَبَبَهُ مَا تَضَمَّنُهُ مِمَّا خَالَفَ أُصُولَ الشَّرْعِ حَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَسَّهُ عَوْرَتِهَا بِشَفَتَيْهِ فَحَكَمْنَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ، وَقِيلَ يُشْبِهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَجَعَتْ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ فَكُنْتُ أُصِيبُهَا فَعَمَدَتِ امْرَأَتِي إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: دُونَكَ قَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا قَالَ عُمَرُ أَوْجِعْهَا وَائِتِ جَارِيَتَكَ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصِّغَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute