وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَنْعَقِدُ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلِمَالِكٍ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَالْأُخْرَى يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ إِذَا قُصِدَ بِهِ النِّكَاحُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الصُّلَحَاءِ لِيَتَزَوَّجَهَا، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ طُلِبَ مِنْهُ حَاجَةٌ لَا يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهُ أَنْ يَسْكُتَ سُكُوتًا يَفْهَمُ السَّائِلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَا يُخْجِلُهُ بِالْمَنْعِ (فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِيهَا) أَيْ: فِي نِكَاحِهَا (حَاجَةٌ) أَيْ: رَغْبَةٌ (قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا) مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَيْ تَجْعَلُهُ صَدَاقَهَا (قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا) عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ وَلَا إِزَارٌ غَيْرَ مَا عَلَيْهِ (قَالَ فَالْتَمِسْ) أَيْ: فَاطْلُبْ شَيْئًا آخَرَ (وَلَوْ خَاتَمًا) بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا (مِنْ حَدِيدٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ هَلْ هِيَ فِي عِدَّةٍ أَمْ لَا، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ وَأَنْفَعُ لِلْمَرْأَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ قِلَّةِ الصَّدَاقِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ إِذَا تَرَاضَيَا لِأَنَّ خَاتَمَ الْحَدِيدِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ كَنِصَابِ السَّرِقَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ حَدِيثَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجَابِرٍ كَمَا سَيَأْتِيَانِ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا يُزَوَّجْنَ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَلَهُ شَاهِدٌ يُعَضِّدُهُ وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فَيُحْمَلُ كُلُّ مَا أَفَادَ ظَاهِرُهُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْمُعَجَّلُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عِنْدَهُمْ كَانَ تَعْجِيلَ بَعْضِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يُقَدِّمَ شَيْئًا لَهَا، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ تَمَسُّكًا بِمَنْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، فَقَالَ: أَعْطِهَا دِرْعَكَ فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا» . لَفَظُ أَبِي دَاوُدَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ فِضَّةٌ لَكِنَّ الْمُخْتَارَ الْجَوَازُ قَبْلَهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فَيُحْمَلُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ عَلَى النَّدْبِ أَيْ: نَدْبُ تَقْدِيمِ شَيْءٍ إِدْخَالًا لِلْمَسَرَّةِ عَلَيْهَا تَأَلُّفًا لِقَلْبِهَا، وَإِذَا كَانَ مَعْهُودًا وَجَبَ حَمْلُ مَا خَالَفَ مَا رُوِّينَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَكَذَا يُحْمَلُ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْتِمَاسِهِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيمُ شَيْءٍ تَالِفًا، وَلَمَّا عَجَزَ قَالَ قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ أَيْةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَهُوَ مُحْمَلُ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِيهِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ (فَالْتَمَسَ) أَيْ: الرَّجُلُ (فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا) أَيْ: وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا يُكَرَهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ضَعِيفٌ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ إِلَيْهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مَعَكَ) أَيْ: عِنْدَكَ (مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ) أَيْ: مَحْفُوظٌ أَوْ مَعْلُومٌ (قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا) زَادَ مَالِكٌ لِسُورَةٍ سَمَّاهَا وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسُوَرُ الْمُفَصَّلِ وَلِأَبِي الشَّيْخِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: ١] قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كَوَنِ الصَّدَاقِ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَجَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ لَا تَقْدِيرَ لَهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْتَمِسْ، إِلَخْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَيِّ شَيْءٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute