أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ فَحَاصِلُهَا أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ، فَيَجُوزُ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ تَعَارَضَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي عُلُوِّ الْحَالِ وَالْفِقْهِ، كَمَا أَسْمَعْنَاكَ عَمَّنْ ذُكِرَ، وَكَوْنُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى خِلَافِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَفْقَهَ وَأَعْلَى مَنْصِبًا، وَنَحْنُ قَدْ أَخْرَجْنَا مَا قُلْنَاهُ عَنِ الْأَكَابِرِ مِثْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ مَا عَارَضْنَا بِهِ، وَكَذَا عَنْ زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ حِينَ رَكِبَ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، وَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ. وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَدِّهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: آلَى النُّعْمَانُ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَرَبَ فَخِذَهُ وَقَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَاعْتَرَفْ بِتَطْلِيقَةٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَ مَذْهَبِنَا عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُولٍ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَبِيصَةَ وَالْحَاكِمِ وَأَبِي سَلَمَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَهَذَا تَرْجِيحٌ عَامٌّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْوُقُوعِ بِمُجَرَّدِ الْمُضِيِّ يَتَرَجَّحُ عَلَى قَوْلِ مُخَالِفِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ عَلَى خِلَافِهِ اهـ.
وَالْآيَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: ٢٢٦] أَيْ: يَحْلِفُونَ عَلَى أَنْ لَا يُجَامِعُوهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْهَا لَا يَكُونُ إِيلَاءً، وَقَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَهَا) خَطَأٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: ٢٢٦] مُبْتَدَأٌ مَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ، وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ، وَأُضِيفَ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى الِاتِّسَاعِ أَيِ: اسْتَقَرَّ لِلْمُولِينَ تَرَقُّبُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: ٢٢٦] أَيْ فِي الْأَشْهُرِ لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ) أَيْ: رَجَعُوا إِلَى الْوَطْءِ عَنِ الْإِضْرَارِ بِتَرْكِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦] حَيْثُ شَرَحَ الْكَفَّارَةَ، وَإِنْ {عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: ٢٢٧] أَيْ: بِتَرْكِ الْفَيْءِ فَتَرَبَّصُوا إِلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: ٢٢٧] لِإِيلَائِهِ (عَلِيمٌ) بَنِيَّتِهِ، وَهُوَ وَعِيدٌ عَلَى إِضْرَارِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْفَيْئَةَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَاهُ فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا بَعْدَ مُضِىِّ الْمُدَّةِ ; لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَقُلْنَا قَوْلُهُ: فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: ٢٢٦] وَالتَّفْصِيلُ يَعْقِبُ الْمُفَصَّلَ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ. قَالَ السَّيِّدُ مُعِينُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ: عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ يَقَعُ تَطْلِيقَةً بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِمَّا بَائِنَةٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَقِفُ فَيُطَالِبُ إِمَّا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ اهـ.
وَفِي مُوَطَّأِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ فَقَدْ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الْفَيْءُ: الْجِمَاعُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ بَانَتْ بِتَطْلِيقِهِ، وَلَا يُوقَفُ بَعْدَهَا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute