قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَنْكِيرِهِمَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَنَّةِ مَحْصُورَةٌ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُ الصُّوفِيَّةِ الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ طَرِيقَ غَيْرِ الْعِلْمِ هُوَ طَرِيقُ الْجَهْلِ وَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلِيًّا جَاهِلًا وَلَوِ اتَّخَذَهُ لَعَلَّمَهُ. (وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ أَيْ: مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلَّهُمْ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي قَوْلِهِ: (لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا) : حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ رِضًا لِيَكُونَ فِعْلًا لِفَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلِّلِ (لِطَالِبِ الْعِلْمِ) : اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِرِضًا، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِأَجْلِ الرِّضَا الْوَاصِلِ مِنْهَا إِلَيْهِ أَوْ لِأَجْلِ إِرْضَائِهَا الطَّالِبَ الْعِلْمَ بِمَا يَصْنَعُ مِنْ حِيَازَةِ الْوِرَاثَةِ الْعُظْمَى وَسُلُوكِ السَّنِّ الْأَسْنَى. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَتَوَاضَعُ لِطَالِبِهِ تَوْقِيرًا لِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: ٢٤] أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ الْكَفُّ عَنِ الطَّيَرَانِ وَالنُّزُولِ لِلذِّكْرِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ " أَوْ مَعْنَاهُ الْمَعُونَةُ وَتَيْسِيرُ الْمُؤْنَةِ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ أَوِ الْمُرَادُ تَلْيِينُ الْجَانِبِ وَالِانْقِيَادُ وَالْفَيْءُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وَالِانْعِطَافِ، أَوِ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تُشَاهَدْ، وَهِيَ فَرْشُ الْجَنَاحِ وَبَسْطُهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ لِتَحْمِلَهُ عَلَيْهَا وَتُبَلِّغَهُ مَقْعَدَهُ مِنَ الْبِلَادِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْبَصْرَةِ فَحَدَّثَنَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي الْمَجْلِسِ شَخْصٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْرُقَنَّ غَدًا نَعْلِي وَأَطَأُ بِهَا أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ فَفَعَلَ وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ فَحَفَتْ رِجْلَاهُ وَوَقَعَتْ فِيهِمَا الْأَكَلَةُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ يَحْيَى السَّاجِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَاجِنٌ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ فَقَالَ: ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا كَالْمُسْتَهْزِئِ بِالْحَدِيثِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى حَفَتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ اهـ.
وَالْحَفَاءُ: رِقَّةُ الْقَدَمِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَتَحُفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَيَرْكَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَبْلُغَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ» . نَقَلَهُ الشَّيْخُ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ) ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَجَازٌ مِنْ إِرَادَةِ اسْتِقَامَةِ حَالِ الْمُسْتَغْفَرِ لَهُ اهـ.
وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) : لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِتَعْرِيفِ الْعُلَمَاءِ وَعَظُمُوا بِقَوْلِهِمْ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : قِيلَ: فِيهِ تَغْلِيبٌ، وَالْمُرَادُ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ مَرْبُوطٌ بِرَأْيِ الْعُلَمَاءِ وَفَتْوَاهُمْ وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ حَيِّهَا وَمَيِّتِهَا إِلَّا وَلَهُ مَصْلَحَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِلْمِ (وَالْحِيتَانُ) : جَمْعُ الْحُوتِ (فِي جَوْفِ الْمَاءِ) : خُصَّ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَشْمَلُ مَنْ فِي الْبَحْرِ أَوْ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ بِأَنْ يُرَادَ بِالْحِيتَانِ جَمِيعُ دَوَابِّ الْمَاءِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَوَالِمِ الْبَرِّ لِمَا جَاءَ: أَنَّ عَوَالِمَ الْبَرِّ أَرْبَعُمِائَةِ عَالَمٍ، وَعَوَالِمُ الْبَحْرِ سِتُّمِائَةِ عَالَمٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَخُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ إِذْ هِيَ فِي الْمَاءِ اهـ. وَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَنَاقُضٌ، نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا وَجَوَابًا ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُهَا فَذَكَرَهَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ مَاءٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِلْعَالِمِ لِأَنَّ السَّبَبَ لِبَقَائِهِ مُخْتَصٌّ بِهِ قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: ١٧] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَاءُ الْعِلْمُ وَالْأَوْدِيَةُ الْقُلُوبُ اهـ كَلَامُهُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصُ الْحِيتَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ بِبَرَكَتِهِمْ حَتَّى إِنَّ الْحِيتَانَ تَعِيشُ بِسَبَبِهِمْ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ: بِهِمْ تُمْطَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ (وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ) : أَيِ: الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ (عَلَى الْعَابِدِ) أَيِ: الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ أَوْقَاتَهُ بِالنَّوَافِلِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَةُ (كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ: لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَبِهِ أَوَّلُ " طه " عَلَى حِسَابِ الْجُمَلِ، وَأُرِيدَ بِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute