النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي نِهَايَةِ النُّورِ وَغَايَةِ الظُّهُورِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ: " كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ (عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ) : إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " فَإِنَّ نُورَ الْمُؤْمِنِ - وَلَوْ كَانَ عَابِدًا - ضَعِيفٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ لَا عَلَى عَالِمٍ فَقَطْ وَعَابِدٍ فَقَطْ، لِأَنَّ هَذَيْنِ لَا فَضْلَ لَهُمَا بَلْ إِنَّهُمَا مُعَذَّبَانِ فِي النَّارِ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْعَمَلِ عَلَى الْعِلْمِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ وَرَدَ: «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، وَوَرَدَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ; لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضَالًّا مُضِلًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: شَبَّهَ الْعَالِمَ بِالْقَمَرِ، وَالْعَابِدَ بِالْكَوْكَبِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ وَنُورَهَا لَا يَتَعَدَّى مِنَ الْعَابِدِ، وَنُورَ الْعَابِدِ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَضِيءُ بِنُورِهِ الْمُتَلَقِّي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْقَمَرِ يَتَلَقَّى نُورَهُ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ مِنْ خَالِقِهَا عَزَّ وَجَلَّ ( «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ) : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَرَثَةُ الرُّسُلِ لِيَشْمَلَ الْكُلَّ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي: فَإِنَّ الْبَعْضَ وَرَثَةُ الرُّسُلِ كَأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، وَالْبَاقُونَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ (وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا) : بِالتَّشْدِيدِ (دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا وَخُصَّا لِأَنَّهُمَا أَغْلَبُ أَنْوَاعِهَا، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى زَوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهَا إِلَّا بِقَدْرِ ضَرُورَتِهِمْ، فَلَمْ يُوَرِّثُوا شَيْئًا مِنْهَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ شَيْئًا مِنْهَا يُوَرَّثُ عَنْهُمْ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ مُبَالَغَةً فِي تَنَزُّهِهِمْ عَنْهَا، وَلِذَا قِيلَ: الصُّوفِيُّ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمَلِّكُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا لَيْسَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْوَرَثَةِ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَقَلُّ الْعِلْمِ بَلْ أَقَلُّ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْعُقْبَى بَاقِيَةٌ. وَنَتِيجَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْفَانِي وَيُقْبِلَ عَلَى الْبَاقِي. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: خَصُّوا الدِّرْهَمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الدِّينَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ هُنَا، وَالْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَإِنَّمَا زِيدَتْ لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَهُ صَفَايَا بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكَ وَخَيْبَرَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَخَلَّفَهَا، وَكَانَ لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَيُّوبُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَوِي نِعْمَةٍ كَثِيرَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَا وَرِثَتْ أَوْلَادُهُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ مُعَدًّا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ اهـ.
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا فِي السُّوقِ بِقَوْمٍ مُشْتَغِلِينَ بِتِجَارَاتِهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ هَاهُنَا، وَمِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَامُوا سِرَاعًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ إِلَّا الْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ وَمَجَالِسَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: أَيْنَ مَا قُلْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: هَذَا مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَلَيْسَ بِمَوَارِيثِهِ دُنْيَاكُمْ (وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ) : لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَنَشْرِ الْأَحْكَامِ، أَوْ بِأَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى تَبَايُنِ أَجْنَاسِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ (فَمَنْ أَخَذَهُ) : أَيِ: الْعِلْمَ (أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أَيْ: أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا يَعْنِي نَصِيبًا تَامًّا أَيْ: لَا حَظَّ أَوْفَرُ مِنْهُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ أَخْذُهُ مُتَلَبِّسًا بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " أَخَذَ " بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: فَمَنْ أَرَادَ أَخْذَهُ فَلْيَأْخُذْ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَلَا يَقْتَنِعْ بِقَلِيلٍ. هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ الشَّرْحِ هُنَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَسَمَّاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: كَثِيرَ بْنَ قَيْسٍ (قَيْسَ بْنَ كَثِيرٍ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَثِيرُ بْنُ قَيْسٍ. قَالَ مَيْرَكُ شَاهُ: وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمِشْكَاةِ: قَيْسُ بْنُ كَثِيرٍ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ. هَكَذَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ وَقَالَ: كَذَا حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَثِيرُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَذَلِكَ سَمَّاهُ أَبُو دَاوُدَ كَثِيرَ بْنَ قَيْسٍ، وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ كَثِيرٍ لَا فِي بَابِ قَيْسٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute