قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ الطَّلَاقُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ؟ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَاقٍ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا نَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، قِيلَ: وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ امْرَأَةٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ التَّلَاعُنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) :، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي: (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) . قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ إِنْكَارُ طَلَبِ مَالِهَا مِنْهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي؟ قَالَ: (لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» ) ، ثُمَّ دَلَّ تَفْرِيقُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ. قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً ; لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا، فَالسُّكُوتُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ ; لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ، وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَاسِدِ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَكْرِيرَ وُقُوعِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ، فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إِلَى مِثْلِ هَذَا، وَالْغَرَضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبِي طَلَّقَ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ يَقَعُ وَاحِدَةً، ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ وَقَعَ إِمْضَاؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَيَثْبُتُ - بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الرِّضَاعِ، وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ، وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُؤَبَّدَةً لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لَا يُتَوَقَّفَ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمَفْهُومُهُ بِشَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (انْظُرُوا) : مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ أَوِ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ، أَيْ: تَأَمَّلُوا (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ) : أَيْ: بِالْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - جَلَّ جَلَالُهُ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: ١٨٠] أَيِ: الْمَيِّتُ (أَسْحَمَ) : أَيْ: أَسْوَدَ (أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ) : فِي النِّهَايَةِ: الدَّعَجُ: السَّوَادُ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: الدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا (عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: عَظِيمَهُمَا، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الزِّنَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّبَهِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ الْعَادِيِّ، وَلِذَا قَالَ: (فَلَا أَحْسِبُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَا أَظُنُّ (عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ) : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالصِّدْقِ (عَلَيْهَا) فِي نِسْبَةِ الزِّنَى إِلَيْهَا (وَإِنْ جَاءَتْ بِهَا أُحَيْمِرَ) : تَصْغِيرُ أَحْمَرَ (كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ) : بِفَتَحَاتٍ: دُوَيْبَّةٌ حَمْرَاءُ تَلْتَزِقُ بِالْأَرْضِ ( «فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ» ) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ (عَلَيْهَا) : فَإِنَّ عُوَيْمِرًا كَانَ أَحْمَرَ ( «فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ» ) : أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ (يُنْسَبُ) : أَيِ: الْوَلَدُ (إِلَى أُمِّهِ) : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) :
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute