وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ. أَقُولُ: وَفِي الْمَدَارِكِ «لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» ". قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ: لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: لَهَا السَّكَنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: ٦] فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنَّ حَوَامِلَ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِنَّ. أَقُولُ: الْمَفْهُومُ لَا عِبْرَةَ لَهُ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالْغَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦] وَلَيْسَ قَيْدُ الْمُطَلِّقِ الْإِنْفَاقَ، وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: وَفَائِدَةُ اشْتِرَاطِ الْحَمْلِ أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ رُبَّمَا تَطُولُ، فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ إِذَا مَضَى مِقْدَارُ عِدَّةِ السَّائِلِ فَنَفَى ذَلِكَ الْوَهْمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ فِي سُقُوطِ السُّكْنَى بِمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً لِسَنَةً وَاسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا، فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ.
(ثُمَّ قَالَ: " تِلْكِ ": بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: هِيَ (امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا) : أَيْ: يُدْخَلُ عَلَيْهَا (أَصْحَابِي) : أَيْ: مِنْ أَقَارِبِهَا وَأَوْلَادِهَا فَلَا يَصْلُحُ بَيْتُهَا لِلْمُعْتَدَّةِ، (اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " اعْتَدِّي ": الْمَعْنَى لَا تَلْبَسِي ثِيَابَ الزِّينَةِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ فِي أَيَّامِ الْعِدَّةِ، أَوْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْحِجَابِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُهَا، وَلَا يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، حَتَّى إِذَا وَضَعَتْ ثِيَابًا لِلتَّبَرُّزِ نَظَرُوا إِلَيْهَا، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: ٣٠] الْآيَةَ. وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: " أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا " عَلَى مَا سَبَقَ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رُخْصَةٌ لَهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهَا آمِنَةٌ عِنْدَهُ مِنْ نَظَرِ غَيْرِهِ، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ بَصَرِهَا عَنْهُ، اهـ. وَعِنْدَنَا إِنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ (فَإِذَا حَلَلْتِ) : أَيْ: خَرَجْتِ مِنَ الْعِدَّةِ (فَآذِنِينِي) : بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ: فَأَعْلِمِينِي (قُلْتُ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) : أَيِ: ابْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيَّ (وَأَبَا جَهْمٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي طَلَبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْبَجَانِيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ أَبِي جَهْمٍ الْمَذْكُورِ فِي التَّيَمُّمِ، وَفِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (خَطَبَانِي) : قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِيهِ جَوَازُ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْبَائِنِ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ. بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطْبَةَ وَقَعَتْ صَرِيحًا بَعْدَ الْعِدَّةِ (فَقَالَ: " أَمَّا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلتَّفْصِيلِ (أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ: مَنْكِبِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْأَسْفَارِ أَوْ عَنْ كَثْرَةِ الضَّرْبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ مِمَّا فِيهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَطَلَبِ النَّصِيحَةِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنَ الْغَيْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ. (وَأَمَّا مُعَاوِيَةَ فَصُعْلُوكٌ) : بِالضَّمِّ أَوْ فَقِيرٌ (لَا مَالَ لَهُ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، حَتَّى قَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ صُعْلُوكٌ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: ٣٣] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ عَيْبٍ فِي الزَّوْجِ لِتَحْتَرِزَ الزَّوْجَةُ مِنْهُ، لِئَلَّا تَقَعَ الزَّوْجَةُ فِي الْمَشَقَّةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute