أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ". خِطَابٌ عَامٌّ وَتَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ ". وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَسْبًا لِلْوَالِدِ. بِمَعْنَى أَنَّهُ طَلَبَهُ وَسَعَى فِي تَحْصِيلِهِ ; لِأَنَّ الْكَسْبَ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَالْمَعِيشَةِ، وَالْمَالُ تَبَعٌ لَهُ، كَانَ الْوَلَدُ نَفْسَ الْكَسْبِ مُبَالَغَةً، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ التَّنْزِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: ٢٣٣] سَمَّاهُ مَوْلُودًا لَهُ إِيذَانًا بِأَنَّ الْوَالِدَاتِ إِنَّمَا وَلَدَتْ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ، وَأُنْشِدَ لِلْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ:
فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ
فَإِنْ قُلْتَ: الِانْتِقَالُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ " إِلَى قَوْلِهِ: " إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ ". هَلْ يُسَمَّى الْتِفَاتًا؟ قُلْتُ: لَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ إِحْدَى الصِّيَغِ الثَّلَاثِ إِلَى الْأُخْرَى) أَعْنِي: الْحِكَايَةَ وَالْخِطَابَ وَالْغَيْبَةَ لِمَفْهُومٍ وَاحِدٍ، بَلْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ تَلْوِينًا لِلْخِطَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ". وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ مِلْكًا نَاجِزًا فِي مَالِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهَا مَرْفُوعًا ( «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةٌ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا» ) : وَمِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مُئَوَّلٌ أَنَّهُ تَعَالَى وَرَّثَ الْأَبَ مِنِ ابْنِهِ السُّدُسَ مَعَ وَلَدِ وَلَدِهِ، فَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مِلْكَهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مَعَ وُجُودِهِ. قَالَ: وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ، وَجْهُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: ٢٣٣] لِنَفْيِ الْمُضَارَّةِ لَا لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ، فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَى إِيجَابِ النَّفَقَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهَا الشَّرْعِيِّ. قُلْنَا: نَفْيُهَا لَا يُخْتَصُّ بِالْوَارِثِ، ثُمَّ دَلِيلًا هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنَ الْإِشَارَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْكَافِ فَإِنَّهَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا بِالْوَارِثِ، فَقَيْدُ الْمَحْرَمِيَّةِ زِيَادَةٌ. قُلْنَا: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ ". فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ. بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقَاطِعِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ أُجِيبَ: بِادِّعَاءِ شُهْرَتِهَا. وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِمَا فِي النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ طَارِقٍ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: " يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا "، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ وَأَدْنَاكَ» . وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةِ الْقُشَيْرِيِّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أُمَّكَ ". قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ( «فَإِنْ فَضَلَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذَوِي قَرَابَتِكَ» ) . فَهَذِهِ تُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِلَا تَقْيِيدٍ بِالْإِرْثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا يُفِيدُ وُجُوبَ النَّفَقَةِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِ السَّائِلِ: مَنْ أَبَرُّ؟ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ سُؤَالًا عَنِ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ سُؤَالًا عَنِ الْأَفْضَلِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ أَلْزَمَهُمْ أَنَّ الْوَارِثَ أُرِيدَ بِهِ الْقَرِيبُ عُبِّرَ بِهِ خُصُوصًا عَلَى رَأْيِكُمْ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَرِيبٍ وَارِثٌ لِتَوْرِيثِكُمْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ قَوْلِكُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الْإِرْثِ فِي الْجُمْلَةِ. قَالُوا: إِذَا كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى خَالِهِ وَمِيرَاثَهُ لِابْنِ عَمِّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute