للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالسَّلَفُ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا بَاعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى سَيِّدِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: (اقْضِ دَيْنَكَ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: التَّدْبِيرُ لُغَةً النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَشَرْعًا الْعِتْقُ الْمُوقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعَلَّقًا بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ دَبَّرْتُكَ، فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي التَّدْبِيرِ، فَإِنَّهُ أَيِ التَّدْبِيرَ إِثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ، وَهَذِهِ تُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الْمُدَبَّرَ الْمُطْلَقَ، وَهُوَ الَّذِي عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَّا لِحُرِّيَّةٍ بِلَا بَدَلٍ أَوْ لِكِتَابَةٍ أَوْ عِتْقِ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ تَجُوزُ، فَيَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَإِجَارَتُهُ، وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ، وَتَزْوِيجُ الْمُدَبَّرَةِ وَوَطْؤُهَا وَأَخْذُ مَهْرِهَا وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ ثَابِتٌ وَبِهِ يُسْتَفَادُ وَلَايَةُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامًا عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ وَقَالَ: (اقْضِ دَيْنَكَ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَنَدِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ الْمُدَبَّرَ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَطَاوَلَ مَرَضُهَا، فَذَهَبَ بَنُو أُخْتِهَا فَذَكَرُوا مَرَضَهَا إِلَى طَبِيبٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُخْبِرُونِي عَنِ امْرَأَةٍ مَطْبُوبَةٍ. قَالَ: فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهَا سَحَرَتْهَا، وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْهَا فَدَعَتْهَا ثُمَّ سَأَلَتْهَا: مَاذَا أَرَدْتِ؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ تَمُوتِي حَتَّى أُعْتَقَ.

قَالَتْ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ تُبَاعِي مِنْ أَسْوَأِ الْعَرَبِ مَلَكَةً، فَبَاعَتْهَا وَأَمَرَتْ بِثَمَنِهَا، فَجُعِلَ فِي مِثْلِهَا. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شَرَفٌ فِي دَيْنِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] ذَكَرَهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ الْآنَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِصْحَابَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ، إِذْ لَمْ يُوجِبَ التَّدْبِيرُ زَوَالَ الرِّقِّ عَنْهُ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ» ، وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنْ ضَعَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ رَفْعَهُ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَعَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ لَا إِشْكَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ فَقَوْلُ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ لَا يُعَارِضُهُ النَّصُّ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُعَارِضُهُ لَوْ قَالَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ، فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِ فَظَاهِرٌ، وَعَلَى عَدَمِ تَقْلِيدِهِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السَّمَاعِ ; لِأَنَّ مَنْعَ بَيْعِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَبَطَلَ مَا قِيلَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَيْضًا: ثَبَتَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَنَّ عَطَاءً وَطَاوُسًا يَقُولَانِ عَنْ جَابِرٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ عِتْقُهُ عَنْ دُبُرِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، الْحَدِيثَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: شَهِدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ جَابِرٍ، إِنَّمَا أَذِنَ فِي بَيْعِ خِدْمَتِهِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكُوفِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَلَكِنَّ حَدِيثَهُ هَذَا مُرْسَلٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَوْفِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>