رَأَى عُمَرُ، وَفَاوَضَ فِيهِ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ فَاوَضَ عُمَرُ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا حَكَمَ هُوَ بِهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْضُ بِأَنْ يَرَى أَحَدُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافَهُ اجْتِهَادًا، وَالْقَوْمُ رَأَوْا ذَلِكَ تَوْقِيفًا، لَا سِيَّمَا وَلَا يَقْطَعُ عَلَى الْقَوْلِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ فِيهِ تَرَدُّدًا. وَقَالَ الشَّمَنِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْعُرْ بِبَيْعِهِمْ إِيَّاهَا، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا إِذَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَبُو بَكْرٍ لِقِصَرِ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ عُمَرُ لَمَّا بَلَغَهُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، كَمَا قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْمُتْعَةِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «كُنَّا نَتَمَتَّعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، حَتَّى نَهَانَا عُمَرُ» .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أُمُّ الْوَلَدِ تَصْدُقُ لُغَةً عَلَى مَا إِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْأَمَةُ الَّتِي يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَالِكِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا وَلَا هِبَتُهَا، بَلْ إِذَا مَاتَ سَيِّدُهَا وَلَمْ يُنْجِزْ عِتْقَهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ، وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَدْيُونًا مُسْتَغْرَقًا. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، كَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، لَكِنْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ. فَهَذَا يُصَرِّحُ بِرُجُوعِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُمَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: كُنَّا نَبِيعُهُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الْعُقَيْلِيُّ بِزَيْدٍ الْعَمِّيِّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: زَيْدٌ الْعَمِّيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِلْجُمْهُورِ بِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَطَّابِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ سَلَامَةَ بِنْتِ مَعْقِلٍ امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْبَابِ قَالَتْ: قَدِمَ ابْنُ عَمِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَاعَنِي مِنَ الْحُبَابِ بْنِ عُمَرَ أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عُمَرَ، فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحُبَابِ، ثُمَّ هَلَكَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: الْآنَ وَاللَّهِ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي امْرَأَةٌ مِنْ خَارِجَةَ بْنِ قَيْسِ غَيْلَانَ قَدِمَ بِي عَمِّي الْمَدِينَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَاعَنِي مِنَ الْحُبَابِ بْنِ عُمَرَ أَخِي أَبِي الْيُسْرِ بْنِ عُمَرَ، فَوَلَدْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: الْآنَ تُبَاعِينَ فِي دَيْنِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ وَلِيُّ الْحُبَابِ، قِيلَ: أَخُوهُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، فَبَعَثَ إِلَيْهِ: أَعْتِقُوهَا، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَقِيقٍ قَدِمَ عَلَيَّ فَأْتُوْنِي أُعَوِّضْكُمْ. قَالَتْ: فَأَعْتَقُونِي، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَقِيقٌ فَعَوَّضَهُمْ عَنِّي غُلَامًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعْتِقُوهَا وَيُعَوِّضَهُمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَعْتِقُوا خَلُّوا سَبِيلَهَا كَمَا فَسَّرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنَّ هَذَا احْتِمَالٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْعِبْرَةُ لِلظَّاهِرِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى هَذَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ يُوجِبُهُ وَيُعَيِّنُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا. وَطَرِيقُهُ مَعْلُولٌ بِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيرِينَ، وَحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَبِسَنَدِ ابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، لَكِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ سِيرِينَ فَقَطْ، فَإِنَّهُ يَرْوِي أَنَّ حُسَيْنًا مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَهَذَا تَوْثِيقٌ لِحُسَيْنٍ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا زُفَرُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي قُبَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ مِنْهُ أَمَةٌ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute