قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِتَقْدِيمِ التَّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ". قُلْنَا: الْمَعْرُوفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلِيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ لَفْظُ ثُمَّ، إِلَّا وَهُوَ مُقَابَلٌ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي أَبِي دَاوُدَ وَقَالَ فِيهِ: " «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَابَلَةٌ بِرِوَايَاتٍ عَدِيدَةٍ، كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِالْوَاوِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الشَّاذِّ مِنْهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الْوَاوِ حَمْلًا لِلْقَلِيلِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْغَلَطِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا حَلَفَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَقَالَ: " لَا أَحْلِفُ ". إِلَى أَنْ قَالَ: " إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي ثُمَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَهَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِلَى آخِرِ مَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِيهِ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ شَذَّتْ لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، فَصَدَقَ عَلَيْهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكَرِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا خَالَفَ الْحَافِظُ فِيهَا الْأَكْثَرَ، يَعْنِي مَنْ سِوَاهُ مِنْهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ التَّعْقِيبُ الْمُسْتَفَادُ بِالْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا فِي: ادْخُلِ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَفَاكِهَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْقِيبُ دُخُولِ السُّوقِ بِشِرَاءِ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: ٦] الْآيَةَ. وَهَكَذَا ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَمَّا لَمْ تَقْتَضِ التَّعْقِيبَ كَانَ قَوْلُهُ: " فَلْيُكَفِّرْ ". لَا يَلْزَمُ تَعْقِيبُهُ لِلْحِنْثِ، بَلْ جَازَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ كَمَا بَعْدَهُ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْحَاصِلِ فَلْيَفْعَلِ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُعَقَّبُ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ بِعَكْسِهِ، مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ". وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمٍّ لِي آتِيهِ أَسْأَلُهُ فَلَا يُعْطِينِي وَلَا يَسْأَلُنِي ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَيَّ فَيَأْتِينِي وَيَسْأَلُنِي، وَقَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُعْطِيَهُ وَلَا أَصِلَهُ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِي» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ لَمْ يَفْرِضْ صِحَّةَ رِوَايَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ تَغْيِيرِ الرُّوَاةِ، إِذْ قَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْوَاوِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْوَاجِبُ كَمَا قَدَّمْنَا حَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ الشَّهِرِ لَا عَكْسُهُ، فَيُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى الْوَاوِ الَّتِي امْتَلَأَتْ كُتُبُ الْحَدِيثِ مِنْهَا دُونَ ثُمَّ اهـ. وَفِي الْمُغْنِي: خَالَفَ قَوْمٌ فِي اقْتِضَاءِ ثُمَّ التَّرْتِيبَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا - وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: ١٨٩ - ٧] ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: ٨] ، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: ٩] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute