مُرِيدًا الِامْتِنَاعَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ مَثَلًا إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا، فَكَلَّمَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ. قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ حَمْلُ مَا لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، مَعَ أَنَّ التَّخْيِيرَ خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَسْطُورِ قَالَ: وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَكَثِيرُونَ عَلَى النَّذْرِ الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ حَقٌّ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ الْمُحَقَّقُ قَالَ: وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ. قُلْتُ: مَعَ بُعْدِهِ يَرُدُّهُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ") : فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ. قَالَ: وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّذْرِ، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ لِمَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْتُ: يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ إِتْيَانِ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ لِقَوْلِهِ: " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ ". أَيْ: لَا وَفَاءَ بِهِ كَمَا سَبَقَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ نَذْرًا لِلَّهِ يَكُونُ يَمِينًا إِذَا نَكَّرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرًا لِلَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلَنَّ كَذَا حَتَّى إِذَا لَمْ يَفِ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَا النَّذْرَ الْمُطْلَقَ شَيْئًا مِنَ الْقُرَبِ كَحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ فَإِنْ كَانَ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهَا، فَفَعَلَ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَإِنْ حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَعَلَيْهِ مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْمُطْلَقِ فِي اللَّفِّ قُرْبَةً مُعَيَّنَةً كَانَتْ كَالْمُسَمَّاةِ لِأَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ الْحَدِيثُ إِلَى مَا لَا نِيَّةَ مَعَهُ مِنْ لَفْظِ النَّذْرِ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرًا لِلَّهِ، وَلَمْ يُرِدْ عَلَيَّ ذَلِكَ، فَهَذَا لَمْ نَجْعَلْهُ يَمِينًا ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَحْلُوفٍ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ صِيغَةَ النَّذْرِ بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ مُطْلَقًا عَنِ الشَّرْطِ، أَوْ مُعَلَّقًا بِهِ، وَذَكَرَ لَفْظَ النَّذْرِ مُسَمًّى مَعَهُ الْمَنْذُورُ، مِثْلَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ صَوْمِ يَوْمَيْنِ مُعَلَّقًا أَوْ مُنْجَزًا، فَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْكَفَّارَةِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ النَّذْرِ وَلَفْظِ النَّذْرِ اهـ. بَلَّغَهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْأَقْصَى فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثُمَّ قَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا أَيْ: غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ لِنَفْسِهَا، وَمِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَا، وَهَذِهِ شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ فَالنَّذْرُ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا النَّذْرُ لِعِيَادَةٍ لِمَرِيضٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَنْذُورِ مَعْصِيَةً يَمْنَعُ اعْتِقَادَ النَّذْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْقُرْبَةِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ نَذْرَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوْلُنَا: فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ أَيْ: مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْبَةٌ لَا بِكُلِّ وَصْفٍ الْتُزِمَ بِهِ أَوْ عُيِّنَ وَهُوَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَصَدَّقَ فِي غَدٍ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، خِلَافًا لِزُفَرَ لَهُ: أَنَّهُ يَأْتِي بِغَيْرِ مَا نَذَرَهُ، وَلَنَا: إِنَّ لُزُومَ مَا الْمُلْتَزَمَةِ. (" وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ ") : كَحَمْلِ جَبَلٍ أَوْ رَفْعِ حِمْلٍ أَوِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ (" فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ ") : أَمْرُ غَائِبٍ مِنْ وَفَى يَفِي، وَالْمَعْنَى فَلْيَفِ بِهِ أَوْ لِيُكَفِّرْ، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْبِرَّ فِي الْيَمِينِ أَوْلَى إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْصِيَةً. قَالَ الطِّيِبِيُّ قَوْلُهُ: وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ، وَيُقَوِّي مَذْهَبَ الْأَصْحَابِ. قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَوَقَفَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (بَعْضُهُمْ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى. (عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute