للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

كِتَابُ الْقِصَاصِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٣٤٤٦ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ» " " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

كِتَابُ الْقِصَاصِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَصْدَرٌ مِنَ الْمُقَاصَّةِ، وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ، أَوْ فِعَالٌ مِنْ قَصَّ الْأَثَرَ أَيْ تَبِعَهُ، وَالْوَالِي يَتْبَعُ الْقَاتِلَ فِي فِعْلِهِ. الْمُغْرِبُ: الْقَصُّ الْقَطْعُ وَقُصَاصُ الشَّعْرِ مَقْطَعُهُ وَمُنْتَهَى مَنْبَتِهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِلَى حَوَالَيْهِ، وَمِنْهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مُقَاصَّةُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ، وَالْمَجْرُوحِ الْجَارِحَ وَهِيَ مُسَاوَاتُهُ إِيَّاهُ فِي قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ ثُمَّ عُمَّ فِي كُلِّ مُسَاوَاةٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

٣٤٤٦ - (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ) : أَيْ إِرَاقَتُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّضِحٌ عُرْفًا فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ، وَلَا فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ مُضَافٍ إِلَى الْأَعْيَانِ كَمَا ظُنَّ، وَالْمُرَادُ بِامْرِئٍ: الْإِنْسَانُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ شَامِلٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمُرْتَدَّةِ فَسَيَأْتِي الْبَيَانُ (" مُسْلِمٍ ") ، هُوَ صِفَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِامْرِئٍ (" يَشْهَدُ ") : أَيْ يَعْلَمُ وَيَتَيَقَّنُ وَيَعْتَقِدُ (" أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ") : أَيْ بِوُجُودِهِ وَوُجُوبُ وُجُودِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ (" وَأَنِّي رَسُولُ ") : أَيْ إِلَى كَافَّةِ خَلْقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: يَشْهَدُ مَعَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ جَاءَتْ لِلتَّوْضِيحِ وَالْبَيَانِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْلِمِ هُوَ الْآتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِمَا كَافٍ لِلْعِصْمَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ يَشْهَدُ حَالٌ جِيءَ بِهَا مُقَيِّدَةً لِلْمَوْصُوفِ مَعَ صِفَتِهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ بِهِمَا الْعُمْدَةُ فِي حَقْنِ الدَّمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (" إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ") : أَيْ خِصَالٍ ثَلَاثٍ: قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَزِنًا لِمُحْصَنٍ، وَالِارْتِدَادُ، فَفَصَّلَ ذَلِكَ بِتَعْدَادِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ الْمُسْتَوْجِبِينَ الْقَتْلَ لِأَجْلِهِ فَقَالَ: (" النَّفْسِ ") : بِالْجَرِّ وَجُوِّزَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فِيهَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ قَالَ الْكَازَرُونِيُّ بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ وَبِالْجَرِّ بَدَلٌ، وَبِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى الْأَوَّلِ اهـ. وَلَعَلَّهُ رِوَايَتُهُ وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ الْجَرُّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ لِابْنِ حَجَرٍ أَيْ قَاتِلِ النَّفْسِ. (" بِالنَّفْسِ ") ، لِيُلَائِمَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (" وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ ") . أَوْ تَقْدِيرُهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَزِنَا الثَّيِّبِ وَمُرُوقُ الْمَارِقِ، لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَبِالنَّفْسِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ قَتْلٍ مُلْتَبِسٍ بِالنَّفْسِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْمُقَابَلَةِ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُقْتَصِّ بِالنَّفْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ إِخْرَاجًا لِلْقَتْلِ الْمُسْتَحَقِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ يَحِلُّ قَتْلُ النَّفْسِ قِصَاصًا بِالنَّفْسِ الَّتِي قَتَلَهَا عُدْوَانًا وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِوَلِيِّ الدَّمِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُرَفَاءِ: كَمَا كَتَبَ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي قَتْلَاهُ الَّذِينَ بَذَلُوا الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّ عِنْدَ شُهُودِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيِّ، كَمَا قَالَ: مَنْ أَحَبَّنِي قَتَلْتُهُ، وَمَنْ قَتَلْتُهُ فَأَنَا دِيَتُهُ، الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. أَيْ مَنْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ فَيْضُهُ مُتَّصِلًا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَنْ كَانَ فِي رِقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ غَايَةَ الِاتِّصَالِ، وَمَنْ كَانَ نَاقِصًا فِي دَعْوَى مَحَبَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ دِيَتَهُ فَلَهُ حَيَاةُ الدَّارَيْنِ وَالْبَقَاءُ بِرَبِّ الثَّقَلَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّيِّبِ الْمُحْصَنُ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ الَّذِي أَصَابَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ثُمَّ زَنَى، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ رَجْمَهُ وَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ ذَلِكَ، لَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ دَمِهِ لِمُحَافَظَةِ أَنْسَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُ حَقًّا فِيهِ، أَمَّا لَوْ قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ اقْتُصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا تَسَلُّطَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِبَاحَةَ دَمِ الْقَاتِلِ أَيْضًا لِمُحَافَظَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ اتِّفَاقًا، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى الرَّجْمِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا نَبِيًّا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا [أَلْبَتَّةَ] نَكَالًا مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا الْحَدِيثَ. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ فِي الزِّنَا مَفَاسِدَ مِنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْأَوْلَادِ، وَيَثِبُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْحُرُوبُ بَعْدَ التَّشَبُّهِ بِالْبَهَائِمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْبِكْرُ وَالْمُكَلَّفُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَيُجْلَدُ مِائَةً، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا فَيُجْلَدُ خَمْسِينَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>