للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَيُرَادُ بِالْمَارِقِ لِدِينِهِ الْخَارِجُ عَنْهُ مِنَ الْمُرُوقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ الْمَرَقُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّحْمِ عِنْدَ الطَّبْخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ مُهْدَرٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، وَفِيمَا إِذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ خِلَافٌ. اهـ.

وَالتَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَارِقِ أَيِ الَّذِي تَرَكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَانْفَرَدَ عَنْ أَمْرِهِمْ بِالرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا، فَيُحَبُّ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَتَسْمِيَتُهُ مُسْلِمًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا بِالْبِدْعَةِ أَوْ نَفْيِ الْإِجْمَاعِ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ ; فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِشَيْءٍ سِوَى مَا عُدِّدَ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ: وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» ". أَيِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ كَذَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ نَصٌّ فِي الْحَصْرِ الْمُفِيدِ لِنَفْيِ قَتْلِهِ، فَلَا يَثْبُتُ إِثْبَاتُهُ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِأَنَّهُ قَارَبَ الْكُفْرَ، أَوْ شَابَهَ عَمَلَ الْكَفَرَةِ، أَوْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ الْكُفْرَانُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا اسْتَحَلَّ تَرْكَهُ أَوْ نَفَى فَرْضِيَّتَهُ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ إِيجَابِ الْحَجِّ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٧] حَيْثُ وَضَعَ قَوْلَهُ: كَفَرَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة: ٤٥] وَالْمَفْهُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: ١٧٨] غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا لَا سِيَّمَا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْطُوقِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنْ لَا مَفْهُومَ فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَيَّةِ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمَرْأَةُ ; فَإِنَّهَا لَا تُقْتَلُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالُوا: وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ أَوْ نَفْيِ إِجْمَاعٍ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمَا، وَخُصَّ مِنْ هَذَا الْعَامِّ الصَّائِلُ وَنَحْوُهُ، فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الدَّفْعِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْمُرَادُ لَا يَحِلُّ تَعَمُّدُ قَتْلِهِ قَصْدًا إِلَّا فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ اهـ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعْنَى: لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ حَالُ الْأَشْقِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ، وَالطَّرْدِ الْكُلِّيِّ، لَا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابُ الْمَشْهَدِ الصَّمَدِيِّ، وَهُوَ الْقَلْبُ فَيَأْتِيهِ الْإِلْهَامُ مِنَ الرَّبِّ، وَلَا بَابُ السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ، فَيَدْخُلُهُمَا الْفَهْمُ وَالِاعْتِبَارُ، فَارْتَدُّوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَصِرَاطِ التَّوْحِيدِ، وَاحْتَجَبُوا بِظُلُمَاتِ الْكَثْرَةِ عَنْ نُورِ التَّفْرِيدِ، وَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ وَالنَّارَ، وَحُبِسُوا فِي ظُلُمَاتِ دَارِ الْبَوَارِ، فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اشْتَغَلَ بِالْفَضَائِلِ، وَانْتَهَى عَنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ وَسَائِرِ الرَّذَائِلِ، وَمَا أَنْفَعَ قَوْلَ الْقَائِلِ:

أَيَا فَاعِلَ الْخَيْرِ عُدْ ثُمَّ عُدْ ... وَيَا فَاعِلَ الشَّرِّ مَهْ لَا تَعُدْ

فَمَا سَادَ عَبْدٌ بِدُونِ التُّقَى ... وَمَنْ لَمْ يَسُدْ بِالتُّقَى لَمْ يَسُدْ

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ يَعْنِي السِّتَّةَ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا وَجَدْتُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . فَجُمْلَةُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَسْقَطَهَا الْإِمَامُ النَّوَوِيٌّ فِي أَرْبَعِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ: كَذَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِمَا، وَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ مَعَ الْتِزَامِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ تَتَبُّعَ الصَّحِيحَيْنِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ خَالَفَ هَاهُنَا وَاخْتَارَ تَأْخِيرَ الثَّيِّبِ عَنِ النَّفْسِ، مَعَ أَنَّ التَّرْتِيبَ لِلتَّرَقِّي مُسْتَفَادٌ مِنْ نَقْلِنَا إِذِ الزِّنَا دُونَ الْقَتْلِ، وَهُوَ دُونَ الِارْتِدَادِ، لَا يُقَالُ الْوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ مُعْتَبَرٌ صَحِيحٌ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ الْفَصِيحِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ» ". ثُمَّ قَوْلِهِ: الزَّانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَكَذَا فِي النُّسَخِ، الزَّانِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ قُرِئَ بِهَا فِي السَّبْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: ٩] وَالْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>