فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِمَاعِ كَلَامِ أَيِّ الْخَصْمَيْنِ شَاءَ وَفِي قَوْلِهِ فَرَدٌّ عَلَيْكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالصُّلْحِ الْفَاسِدِ مُسْتَحِقٌّ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْآخِذِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْطَعُ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْتَصُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ. وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ أُحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إِفَادَةِ أَنَّهَا مَجَالِسُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنَ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِي الْفِعْلِ مِنْ صَالِحِينَا فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حَفِيرَةً فَرَجَمَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْهُ قَالَ: «أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ، فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ» ، فَصُرِّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا تَغَيَّبَ، ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ! وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا؟ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ، فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ» ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute