إِنَّ مَا قَصَّهُ عَمَّنْ سَبَقَ ظَاهِرُهَا الْإِخْبَارُ بِإِهْلَاكِهِمْ، وَبَاطِنُهَا وَعْظُ السَّامِعِينَ. وَقِيلَ: ظَاهِرُهَا مَعْنَاهُ الظَّاهِرُ لِعُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَبَاطِنُهَا مِنَ الْأَسْرَارِ لِعُلَمَاءِ الْبَاطِنِ، وَقِيلَ: ظَاهِرُهَا التِّلَاوَةُ وَمَعْنَاهَا الْفَهْمُ. (رَوَاهُ) أَيْ: مُصَنِّفُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ: بِإِسْنَادِهِ فِيهِ، وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا: " «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» ". وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ خَبَرًا: " «الْقُرْآنُ تَحْتَ الْعَرْشِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ يُحَاجُّ الْعِبَادَ» "، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ لَهُ حَرْفٌ إِلَّا لَهُ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْجُمْلَةُ الْأُولَى جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا، وَمِنْ ثَمَّ نَصَّ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، أَيْ مَعْنًى، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلًا، مِنْهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: «إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ حَتَّى يَبْلُغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ. قَالَ: كُلٌّ شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ يَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ أَوْ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ: تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ» ، هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا» ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: «الْقُرْآنُ كُلُّهُ صَوَابٌ مَا لَمْ تَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً» ، وَسَنَدُهُمَا جَيِّدٌ، قَالَ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَيْ جَوَازُ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، فَالْقُرَشِيُّ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ، وَالْيَمَنِيُّ تَرْكُهُ، فَلِذَلِكَ سَهُلَ عَلَى قَبِيلَةٍ أَنْ تَقْرَأَ بِلُغَتِهَا، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَرَأَ مَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، أَحَدُهُمَا: وَعَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِهَا مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَثَانِيهِمَا: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ جَامِعَةً لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ مُتَضَمِّنَةً لَهَا لَمْ يُتْرَكْ حَرْفٌ مِنْهَا. وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعًا شَائِعًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ، وَلَا فِعْلُ حَرَامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَغُيِّرَ مِنْهُ، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنْ كَتَبُوا مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ مُسْتَقِرٌّ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي صُحُفٍ، وَجَمَعَهُ عُثْمَانُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِذَهَابِ حَامِلِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَعَ عُثْمَانُ لَمَّا كَانَ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقُرْآنِ حِينَ قَرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ، فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ، فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُسِّعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ دَفَعَا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute