وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِي دِينَارٍ» . عَلَى مَا سَيَأْتِي قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَقَدْرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّصَابُ رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبَى ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي رِوَايَةٍ: يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ النِّصَابَ بِلَفْظِهِ فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صَرِيحِ اللَّفْظِ فِي تَحْدِيدِ النَّصَّابِ لِلْمُحْتَمَلِ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ لَفْظِهِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: «لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» ، فَمَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبُعَ دِينَارٍ، وَأَمَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةٍ جَاءَتْ: «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةٌ، فَهِيَ ضَعِيفَةٌ لَا يُعْمَلُ بِهَا لَوِ انْفَرَدَتْ فَكَيْفَ وَهَى مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ اتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ السَّارِقِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . فَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِهِمَا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَأَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا السِّيَاقُ مَوْضِعَ اسْتِعْمَالِهِمَا بَلِ الْبَلَاغَةُ تَأْبَاهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَذُمُّ فِي الْعَادَةِ مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ قَدْرٌ وَإِنَّمَا يَذُمُّ مَنْ خَاطَرَ فِيمَا لَا قَدْرَ لَهُ، فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ مَا خَسِرَ يَدَهُ فِي مُقَابَلَةِ حَقِيرٍ مِنَ الْمَالِ، فَرُبْعُ دِينَارٍ يُشَارِكُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فِي الْحَقَارَةِ، فَالْمُرَادُ جِنْسُ الْبِيضِ وَجِنْسُ الْحِبَالِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عَادَةِ الْوُلَاةِ سِيَاسَةً لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نِصَابٍ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ النِّصَابَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْطَعُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ أَوْ بِمُعَيَّنٍ لَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ وَالْخَوَارِجُ وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ الْحَدِيثَ. وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ إِلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . فَلَزِمَ فِي الْأَوَّلِ التَّأْوِيلُ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَبَيْضَةً مِنَ الْحَدِيدِ، أَوِ النُّسَخُ وَلَوْ قِيلَ: وَنَسْخُهُ أَيْضًا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ مَا رَوَيْتُمْ قُلْنَا: لَا تَارِيخَ بَقِيَ وَجَّهَ أَوْلَوِيَّةَ الْحَمْلِ وَهُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ ثُمَّ قَدْ نُقِلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ يَتَقَيَّدُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، وَبِالْعَقْلِ إِنَّ الْحَقِيرَ مُطْلَقًا تَفْتُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلًا كَحَبَّةِ قَمْحٍ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْآيَةِ، وَكَذَا لَا يَخْفَى أَخْذُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِأَخْذِهِ رُكْنُ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْأَخْذُ خُفْيَةً وَلَا حِكْمَةَ الزَّجْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلُبُ فَإِنَّ مَا يَغْلُبُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَاطَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ فَهَذَا مُخَصَّصٌ عَقْلِيٌّ بَعْدَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِمَا لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ لِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي تَعْيِينِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ، فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوِ اتَّضَعَ، وَذَلِكَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» ، وَعُثْمَانُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُهُ اه.
وَكَوْنُ مِجَنٍّ بِثَلَاثَةٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَأَخْرَجَهُمَا الشَّيْخَانِ وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute