[٣] بَابُ الْكِتَابِ إِلَى الْكُفَّارِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٣٩٢٦ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ. وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤] » ) " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ: " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ " وَقَالَ: " إِثْمُ الْيَرِيسِيِّنَ " وَقَالَ: " بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ".
ــ
الْكِتَابُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، رَوَى أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ، وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْكُتُبَ إِلَّا مَخْتُومَةً خَوْفًا مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَعْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ: كَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ خَتْمَ كِتَابِ السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سُنَّةٌ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
٣٩٢٦ - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ) : أَيْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ مَنْهِيًّا (إِلَى قَيْصَرَ) : وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لَقَبُ مَلِكِ الرُّومِ، وَكِسْرَى لَقَبٌ لِمَلِكِ الْفُرْسِ، وَالنَّجَاشِيُّ لِلْحَبَشَةِ، وَالْخَاقَانُ لِلتُّرْكِ، وَفِرْعَوْنُ لِلْقِبْطِ، وَعَزِيزٌ لِمِصْرَ، وَتُبَّعٌ لِحِمْيَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَوْ حَالٌ (وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قَيْصَرَ فِي الْهُدْنَةِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ، فَآمَنَ بِهِ قَيْصَرُ وَأَبَتْ بَطَارِقَتُهُ فَلَمْ تُؤْمِنْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ ; أَيْ غَالِبًا نَزَلَ الشَّامَ، وَبَقِيَ ; أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَدِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ كَذَا يَرْوِي أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاجِحَةِ مِنْهُمَا ادَّعَى ابْنُ السِّكِّيتِ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ اهـ. وَفِي الْمَعْنَى دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا بِفَتْحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَفِي الْقَامُوسِ دِحْيَةُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ. (وَأَمَرَهُ) : أَيْ دِحْيَةَ (أَنْ يَدْفَعَهُ) : أَيْ كِتَابَهُ (إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مَقْصُورَةٍ ; أَيْ أَمِيرِهَا وَهِيَ مَدِينَةُ جُورَانَ، ذَاتُ قَلْعَةٍ وَأَعْمَالٍ، قَرِيبَةٌ مِنْ طَرَفِ الْبَرِّيَّةِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ (لِيَدْفَعَهُ) : أَيْ لِيُعْطِيَ هُوَ الْكِتَابَ (إِلَى قَيْصَرَ، فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهِ) : أَيْ فِي الْكِتَابِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ) : أَيْ هَذَا الْمَكْتُوبُ مِنْ مُحَمَّدٍ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ سَلَامٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ مُحَمَّدٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ صَدَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ: (عَبْدِ اللَّهِ) : صِفَتُهُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ عَطْفَ بَيَانٍ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَشْهَرُ مِنْهُ قُلْتُ: فِي قَوْلِهِ (عَبْدِ اللَّهِ) ، ثُمَّ قَوْلِهِ: (وَرَسُولِهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ اتِّصَافِهِ بِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَجَمَالِ الرِّسَالَةِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، وَأَنَّهُ دَاعٍ لِلْخَلْقِ إِلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى التَّعْرِيضِ لِلنَّصَارَى فِي غُلُوِّهِمْ فِي حَقِّ نَبِيِّهِمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْمُكَاتَبَةِ تَصْدِيرُ الْمَكْتُوبِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِاسْمِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ، قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: ٣٠] عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي الْعُنْوَانِ، وَالْبَسْمَلَةُ فِي دَاخِلِ الرُّقْعَةِ (إِلَى هِرَقْلَ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرَتَيْنِ، وَحَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِمِلْكِ الرُّومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَيْصَرُ لَقَبٌ لِجَمِيعِ مَلِكِ الرُّومِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا وَاحِدٌ. (عَظِيمِ الرُّومِ) : بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ وَ " لَمْ " يَكْتُبْ " مِلْكِ الرُّومِ "، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيمِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحُكْمِ الدِّينِ مَعْزُولٌ عَنْهُ وَلَمْ يُخْلِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ لِمَصْلَحَةِ التَّأْلِيفِ إِلَى الْإِسْلَامِ (سَلَامٌ) : أَيْ عَظِيمٌ، أَوْ مِنَّا، أَوْ مِنَ اللَّهِ (عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) : أَيِ الْهِدَايَةَ بِالْإِسْلَامِ وَالدِّيَانَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute