وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: ٤٧] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ (أَمَّا بَعْدُ) : أَيْ: بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهِدَايَةَ (فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ كَالْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَيُرْوَى بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ; أَيْ بِدَعْوَتِهِ. وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الْكَافِرَةِ. (أَسْلِمْ) : أَمْرٌ بِالْإِسْلَامِ (تَسْلَمُ) : مِنَ السَّلَامَةِ ; أَيْ لِكَيْ تَسْلَمَ مِنَ الْعَقَائِدِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ (وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ) : أَيْ: أَجْرَ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا مُحِقًّا قَبْلَ بَعْثَتِي، وَأَجْرَ الْإِيمَانِ بِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ مَرَّتَيْنِ بِـ " تَسْلَمْ " أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ ; أَيْ تَسْلَمْ مَرَّةً فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ، أَوْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَمَرَّةً مِنْ عِقَابِ الْعُقْبَى، وَتَكْرِيرُ أَسْلِمْ مُبَالَغَةٌ وَإِيذَانٌ بِشَفَقَتِهِ وَحِرْصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِسْلَامِهِ، لِكَوْنِهِ سَبَبَ إِسْلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ وَفِيهِ نَفْعٌ كَبِيرٌ. (وَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ أَعْرَضْتَ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ (فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَسِينٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ تَحْتَيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ، ثُمَّ سَاكِنَةٍ ; أَيْ: إِثْمَ أَتْبَاعِكَ فِي إِعْرَاضِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ يَكُونُ لَكَ أَجْرُ أَصْحَابِكَ إِنْ أَسْلَمُوا، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ عَلَيْكَ مَعَ إِثْمِكَ إِثْمَ الْأَتْبَاعِ بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوكَ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ عَلَى أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: بِيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، وَالثَّانِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةٌ وَالرَّاءُ مَكْسُورَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَالثَّالِثُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَاءٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ السِّينِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي مُسْلِمٍ، وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيَاءَيْنِ بَعْدَ السِّينِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمُ الْأَكَّارُونَ ; أَيِ: الْفَلَّاحُونَ وَالزَّرَّاعُونَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ رَعَايَاكَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَكَ وَيَنْقَادُونَ بِانْقِيَادِكَ، وَنَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ عَلَى جَمِيعِ الرَّعَايَا ; لِأَنَّهُمُ الْأَغْلَبُ، وَلِأَنَّهُمْ أَسْرَعُ انْقِيَادًا، فَإِذَا أَسْلَمَ أَسْلَمُوا، وَإِذَا امْتَنَعَ امْتَنَعُوا. قُلْتُ: لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. قَالَ: عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَكَّارِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ النَّصَارَى، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَرِيسَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْأَرُوسِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى اهـ.
وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرِيسِيُّ وَالْإِرِّيسُ كَجَلِيسٍ وَسِكِّيتٍ الْأَكَّارِ وَكَسِكِّيتِ الْأَمِيرِ. وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: ٦٤] : يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ وَالْآيَةُ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: ٦٤] وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعَطْفِ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ إِلَخْ. (تَعَالَوْا) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنَ التَّعَالِي وَأَصْلُهُ يَقُولُهُ مَنْ كَانَ فِي عُلُوٍّ لِمَنْ كَانَ فِي سُفْلٍ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ بِالتَّعْمِيمِ وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى النَّقْلِ وَالْحَذْفِ {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: ٦٤] : مَصْدَرٌ ; أَيْ مُسْتَوِيَةٍ {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: ٦٤] : لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَتَفْسِيرِهَا مَا بَعْدَهَا وَالتَّقْدِيرُ هِيَ {وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: ٦٤] : أَيْ نُوَحِّدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنُخْلِصَ فِيهَا {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: ٦٤] : أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْمَعْنَى لَا نَجْعَلَ غَيْرَهُ شَرِيكًا لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَلَا نَرَاهُ أَهْلًا ; لِأَنْ يُعْبَدَ {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: ٦٤] : أَيْ وَلَا نَقُولَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَلَا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَا نُطِيعَ الْأَحْبَارَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: ٦٤] : أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ (فَقُولُوا) الْخِطَابُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (اشْهَدُوا) ; أَيْ ; أَيُّهَا الْكُفَّارُ {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤] : وَالْمَعْنَى لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دُونَكُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: إِثْمُ الْيَرِيسِيِّينَ) : بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ; أَيْضًا الْيَرِيسِيِّينَ (وَقَالَ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ) .
قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ: بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الْكِتَابِ جُمَلٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْفَوَائِدِ مِنْهَا: قَوْلُهُ: " سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى " وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ. قُلْتُ مَا أَظُنُّ فِيهِ خِلَافًا، وَمِنْهَا دُعَاءُ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْقِتَالُ قَبْلَهُ حَرَامٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنْ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَلِكَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ الْآتِي، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَفِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ شَهِيرَةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ عِيَالِهِمْ، فَرُبَّمَا يُجِيبُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute