للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِعْلَامِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ: «مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الْمُحِيطِ: بُلُوغُ الدَّعْوَةِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا بِأَنِ اسْتَفَاضَ شَرْقًا وَغَرْبًا أَنَّهُمْ إِلَى مَاذَا يَدْعُونَ، وَعَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَأُقِيمَ ظُهُورُهَا مَقَامَهَا اهـ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي بِلَادِ اللَّهِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَيَجِبُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ ظَنَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، فَإِذَا كَانَتْ بَلَغَتْهُمْ لَا تَجِبُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قَدْ «أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تَسْقِي عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ» . حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، وَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُجْدِي الْمَقْصُودَ فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ، وَقُيِّدَ هَذَا الِاسْتِحْبَابُ بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَسْتَعِدُّونَ، أَوْ يَحْتَالُونَ، أَوْ يَتَحَصَّنُونَ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ تَظْهَرُ مِنْ حَالِهِمْ كَالْعِلْمِ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ إِذْ حَقِيقَتُهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ.

قَالَ: وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكَلَامِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا جَوَازُ الْمُسَافَرَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ بِآيَةٍ، أَوْ آيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي ; أَيْدِي الْكُفَّارِ وَجَوَازُ مَسِّ الْمُحْدِثِ وَالْكَافِرِ آيَةً أَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةً مَعَ غَيْرِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: (تَعَالَوْا) : لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ بِدَلِيلِ حَذْفِ (قُلْ) مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيَزِيدُ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَهَا لَمَّا نَزَلَتْ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِصَّةُ أَبَى سُفْيَانَ هَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ نُزُولَهَا مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَمِنْهَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُكَاتَبَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ فَيَقُولَ: مِنْ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، سَوَاءٌ فِيهِ تَصْدِيرُ الْكِتَابِ بِهِ أَوِ الْعُنْوَانِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: ٣٠] وَقِيلَ: الصَّوَابُ فِي الْكُتُبِ فِي الْعُنْوَانِ إِلَى فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ بِفُلَانٍ ; لِأَنَّهُ إِلَيْهِ لَا لَهُ. قُلْتُ: تَأْتِي اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: ٥] ، ثُمَّ فِي قَوْلِ بِلْقِيسَ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: ٣٠] إِلَخْ. لَيْسَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَلَا الْعُنْوَانَ مَصْدَرٌ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْخَتْمِ بِمِنْ سُلَيْمَانَ، فَإِنَّ الْوَاوَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لَا يُفْرِطَ وَلَا يُفَرِّطَ فِي الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، وَلَمْ يَقُلْ مَلِكِ الرُّومِ ; لِأَنَّهُ لَا مُلْكَ لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْكُفَّارِ مَا فِيهَا الضَّرُورَةُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى هِرَقْلَ فَحَسْبُ، بَلْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ فَقَالَ: عَظِيمِ الرُّومِ ; أَيِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّمُونَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلَانَةِ الْقَوْلِ لِمَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: ٤٤] . وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَتَحَرِّي الْأَلْفَاظِ الْجَزْلَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَّاغَةِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَدِيعِ التَّجْنِيسِ، فَإِنَّ " تَسْلَمْ " شَامِلٌ لِسَلَامَتِهِ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ سَبَبَ ضَلَالٍ وَمَنْعِ هِدَايَةٍ كَانَ أَكْثَرَ إِثْمًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: ١٣] وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ أَمَّا بَعْدُ فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: تَقْدِيمُ لَفْظِ الْعَبْدِ عَلَى الرَّسُولِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ طُرُقِ الْعِبَادِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا إِذْ مَا خُلِقُوا إِلَّا لِأَجْلِهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩] ; أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى، وَقَوْلُهُمْ فِي عِيسَى بِالْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: ٣٠] وَصَدْرُ هَذَا الْحَدِيثِ سَيُذْكَرُ فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>