فَقَالَ: لَا أَدْرِي: فَقِيلَ: كَيْفَ تَقُولُ لَا أَدْرِي وَأَنْتَ طَلَعْتَ فَوْقَ الْمِنْبَرِ؟ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّمَا طَلَعْتُ بِقَدْرِ عِلْمِي، وَلَوْ طَلَعْتُ بِمِقْدَارِ جَهْلِي لَبَلَغْتُ السَّمَاءَ (فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ) : أَيْ: مِنْ آدَابِهِ الْوَاجِبِ رِعَايَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا مُتَأَكِّدًا عَلَى كُلِّ مَنْ نُسِبَ لِلْعِلْمِ أَوِ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ وَاسْمُهُ (أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا تَعْلَمُ) : بِالْخِطَابِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: بِالْغَيْبَةِ أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ عَنْهُ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . أَيْ: وَنَحْوُهُ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَجْهُولِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قِيلَ: لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ.
وَيُقَالُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ هَذَا التَّمْيِيزُ جَهْلُهُ مُرَكَّبٌ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنَ الْإِفْتَاءِ فَكَثُرَ امْتِنَاعُهُمْ مِنْهُ حَتَّى أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَأَجَابَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: وَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ اسْتَدَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ امْتِنَاعِ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ فِي الْجَوَابِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِفْتَاءِ بِالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ) وَهُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [ص: ٨٦] : أَيْ: عَلَى التَّبْلِيغِ (مِنْ أَجْرٍ) : أَيْ: آخُذُهُ مِنْكُمْ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: ٨٦] : أَيْ: مِنَ الَّذِينَ يَتَصَنَّعُونَ وَيَتَحَلَّوْنَ بِمَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُئِلَ الصِّدِّيقُ عَنِ الْأَبِّ فِي: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: ٣١] قَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute