قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، الْوَجْهَ الثَّانِيَ، حَيْثُ قَالَ: الْمَعْنَى إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ دَمٍ، وَرَآهُ أَوْجَهَ لِلْمُشَاكَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ (تُعْطَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمَالِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ عَلَى حَالِهِ (حَتَّى كَانَ) : أَوْ وَقَعَ (الْغَدُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ ; أَيْ كَانَ الزَّمَانُ الْغَدَ ( «فَقَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُ كَانَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ حُكْمًا ; أَيْ: حَتَّى كَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ ثُمَامَةُ بَعْدَ الْغَدِ ( «قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ» ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ عَلَى قِسْمَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُمَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا يُرْشِدُ إِلَى حَذَاقَتِهِ وَحَدْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى غَضَبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَدَّمَ فِيهِ الْقَتْلَ تَسْلِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ رَجَا أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ قَوْلَهُ: إِنْ تُنْعِمْ: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَفَى الظُّلْمَ عَنْ سَاحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظَرَ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْقَتْلَ قَدَّمَهُ، وَحِينَ نَظَرَ إِلَى لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْقَتْلَ، وَهَذَا أَدْعَى لِلِاسْتِعْطَافِ وَالْعَفْوِ كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨] أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ لِلْمُجْرِمِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ أَوَّلًا، فَلِذَا قَدَّمَ الْقَتْلَ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْعَفْوَ وَلَا يَنْسَى الذَّنْبَ، وَلِذَا أَخَّرَهُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِ، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ التَّنْظِيرِ بِقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوَّلًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: ١١١] حَتَّى تَقُولَ الْأَنْبِيَاءُ: نَفْسِي نَفْسِي، ثُمَّ لَهُمْ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَطْلِقُوا) : أَيْ حُلُّوا (ثُمَامَةَ) : وَخَلُّوا سَبِيلَهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ) : بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجِيمِ ; أَيْ مَاءٍ قَلِيلِ النَّبْعِ (قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ) . قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: نَخْلٍ هَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَقْدِيرُهُ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ فِيهِ مَاءٌ فَاغْتَسَلَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَوَابُهُ نَجْلٍ بِالْجِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُنْبَعِثُ، وَقِيلَ الْجَارِي. قُلْتُ: بَلِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ صَحَّتْ بِهِ وَلَمْ تُرْوَ إِلَّا هَكَذَا. وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، (ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ! مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ) : بِالنَّصْبِ ; أَيْ أَكْثَرَ مَبْغُوضًا (مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ وَجْهٍ وَهُوَ اسْمُ كَانَ، عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَبَرُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَبَّ الْوُجُوهِ خَبَرُ أَصْبَحَ قَطْعًا، وَقَدْ قُوبِلَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَبْغَضَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَقَعَ خَبَرًا لِكَانَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute