للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٣٩٦٦ - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، فَاسْتَحْيَاهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: ٢٤] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

٣٩٦٦ - (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ) : أَيْ مِنْ كُفَّارِهِمْ (هَبَطُوا) : أَيْ نَزَلُوا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ; أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ) : فِي الْقَامُوسِ: التَّنْعِيمُ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَكَّةَ أَقْرَبَ أَطْرَافِ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ عَلَى يَمِينِهِ جَبَلَ نُعَيْمٍ، وَعَلَى يَسَارِهِ جَبَلَ نَاعِمٍ، وَالْوَادِي اسْمُهُ نَعْمَانُ (مُتَسَلِّحِينَ) ; أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ لَابِسِينَ السِّلَاحَ مِنَ الدُّرُوعِ وَغَيْرِهَا (يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ) ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ; أَيْ غَفْلَتَهُمْ (فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، بِكَسْرِ سِينٍ وَيُفْتَحُ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهِمَا وَبِهِنَّ وَرْدَ التَّنْزِيلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ وَبِإِسْكَانِ اللَّامِ مَعَ كَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: مَعْنَاهُ الصُّلْحُ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ: وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَظْهَرُ ; أَيْ أَسَرَهُمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى فَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: ٩٠] ; أَيْ الِانْقِيَادِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُنَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالْقَضِيَّةِ إِنَّهُمْ لَمْ يُؤْخَذُوا صُلْحًا، وَإِنَّمَا أُخِذُوا قَهْرًا وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَجْزًا قَالَ: وَلِلْوَجْهِ الْآخَرِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْرِ مَعَهُمُ الْقِتَالَ بَلْ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ فَرَضُوا بِالْأَسْرِ كَأَنَّهُمْ قَدْ صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ، (فَاسْتَحْيَاهُمْ) ، ; أَيِ اسْتَبْقَاهُمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْيَاءً وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: ٢٤] .

قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُولَئِكَ وَمُجَازَاتُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ بَعْدَمَا أَرَادُوا الْغِرَّةَ وَالْفَتْكَ بِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمُ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُمْ وَذَبَّهُمْ عَنْهُمْ، لَمْ تَحْصُلِ السَّلَامَةُ، أَسْنَدَ الْفِعْلَيْنِ إِلَيْهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ حَيْثُ قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: ٢٤] ; أَيِ الْكَفُّ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: ١٧] وَإِنَّمَا فَصَلَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: ٢٤] وَعْدًا لَهُمْ بِجَزَاءِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْعَفْوِ بَعْدَ الظَّفَرِ جُبْرَانًا لِمَا نُفِيَ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ إِثْبَاتًا لِلْكَسْبِ بَعْدَ نَفْيِ الْقُدْرَةِ. قُلْتُ: الْأَنْسَبُ تَنْظِيرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: ١٧] هُنَا وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ: خَرَجَ فِي خَمْسِمِائَةٍ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى جُنْدٍ، فَهَزَمَهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ حِيطَانَ مَكَّةَ، ثُمَّ عَادَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي أَبْزَى. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: ٢٤] وَأَمَّا السَّيِّدُ مَعِينُ الدِّينِ الصَّفْوِيُّ قَالَ: فِيهِ شَيْءٌ، وَكَيْفَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَلْ كَانَ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ هُوَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَحَفِظَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ وَعَنِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ وَهَتْكِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا ظَفَرُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَنَّ سَبْعِينَ، أَوْ ثَمَانِينَ، أَوْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مُتَسَلِّحِينَ. . . الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ حَجُّ مَكَّةَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذِ السُّورَةُ نَزَلَتْ قَبْلَهُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمَشْهُورُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ فُتِحَ عَنْوَةً، وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: ٧] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: ١٠] وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ. وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمْ يَحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحْتَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْضَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقْضِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ» ) وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنُوا كُلُّهُمْ بِهِ بِلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَا ثَبَتَ مِنْ إِجَازَةِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ إِجَارَتِهِ وَمُدَافَعَتِهَا عَلِيًّا عَمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، وَأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بَعْدَ دُخُولِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ» " إِلَى أَنْ قَالَ: " «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَبَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» ". فَقَوْلُهُ: بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>