للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَعْنِي مَا كَانَ إِذْ ذَاكَ قَالَ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ ; أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ: «قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَظُنُّ بِنَا جُبْنًا عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَا ضَنًّا بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إِخْوَانُنَا، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْتَ فَكَرِهْنَا نَدْعُوكَ بِضَيْعَةٍ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ» ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبَ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ، وَهُوَ - وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ - فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا " فِي أَبِي دَاوُدَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَذَا كَذَا، فَإِنَّمَا كَنَى بِهِ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ. فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا الْحَالُ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقِلَّتِهَا، أَوْ عَدَمِهَا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكْنَى عَنْهُ لِلرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ وَمَا أُخِذَ ; لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا، فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا وَالضَّعِيفُ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ ارْتَقَى إِلَى الْحَسَنِ، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رَدًّا لَكُمْ لَوِ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا، الْحَدِيثَ فَقَوْلُهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذَ لِلْآخِذِينَ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا.

قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مَؤْتَةَ وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ شَجَرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ، فَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ. قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُ خَالِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا خَالِدُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: أَتَرُدَّنَّهُ، أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخَالِدٍ: " رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ ". قَالَ عَوْفٌ: دُونَكَ يَا خَالِدُ لَمْ أُوَفِّ لَكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارَكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» فَفِيهِ أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: رَدَّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُلْ: " «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» " إِلَّا فِي حُنَيْنٍ، فَإِنَّ مَوْتَهُ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ مَا أَمَرَ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنْفِيلًا، وَأَنَّ أَمْرَهُ ; إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّمَا مَنَعُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْيَسِيرُ مِنَ الضَّرَرِ يُتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ مِنَ النَّفْعِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ، وَهُوَ عَوْفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ فَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ، وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ، لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُ بِمَنْعِ حَقِّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ لَهُ جِنَايَةٌ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>