لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فُتِحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا، كَمَا قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهْمَانًا، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا، فِي أَبِي دَاوُدَ: بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ قَسَمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسْمًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كَلُّ سَهْمٍ مِائَةً. يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَكَانَ النِّصْفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ أَيْ: لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيخُ وَالْكَثِيبَةُ وَالسَّلَالِمُ وَتَوَابِعُهَا، فَلَمَّا صَارَتِ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ. زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى كَانَ عُمَرُ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وُقُوفًا عَلَى الْعَمَلِ، فَأَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ إِلَى الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَوْمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً، أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: فَإِنَّمَا دَخَلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَهُمَا الْوَطِيخُ وَالسَّلَالِمُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنَكَ الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنَ الصُّلْحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إِلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ اهـ.
وَلَا شَكَّ فِي إِقْرَارِ عُمَرَ أَهْلَ السَّوَادِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ، أَوْ غَامِرٍ عَمَلَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَفَرَضَ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةً، وَعَلَى الرِّطَابِ خَمْسَةً، وَفَرَضَ عَلَى رِقَابِ الْمُوسِرِينَ فِي الْعَامِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَعَلَى مَنْ دُونَهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحُمِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ إِلَى عُمَرَ ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَجُعِلَتْ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَالْمَنْقُولَاتُ لِلْغَانِمِينَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهَا بِأَهْلِ الْخُمُسِ، لَكِنَّهُ اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ وَاسْتَرَدَّهَا وَرَدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: بَاعَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِثَمَنٍ مُنَجَّمٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً وَأَنَّ عُمَرَ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: ٧] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: ١٠] أَيِ: الْغَنِيمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَصْحَابِهِ، وَلِلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ وَبِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَلَمْ يُحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إِلَى رَأْيِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَهَا، وَلِذَا ذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَدْعَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ اهـ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَعْوَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، بَلْ عَلَى نَقِيضِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute