للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ، فَيَكُونَ مُعْجِزَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ وَافَقُوا الْبَاجِيَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ شَيْخُهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ النَّيْسَابُورِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَفْرِيقِيَّةَ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْد اللَّهِ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأَ. قَالَ مُجَالِدٌ: فَذَكَرْتُهُ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ: صَدَقَ قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَرَدَتْ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حُرُوفَ الْخَطِّ وَحُسْنَ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ: ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ وَقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ: (أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تُغَوِّرِ الْمِيمَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ كَتَبَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ وَضْعِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِضَعْفِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَعَنْ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَالْكَاتِبَ فِيهَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَتَبَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّكْتَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ: (أَرِنِي مَكَانَهَا) أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الْكَلِمَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْوِهَا إِلَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَكَتَبَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَحَاهَا، فَأَعَادَهَا لِعَلِيٍّ فَكَتَبَ، أَوْ أَطْلَقَ بِمَعْنَى أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ لَا يَحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ، وَيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَتْ يَدُهُ بِالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهَا، فَخَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ فَيَكُونُ مُعْجِزَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَيَكُونُ آيَةً أُخْرَى لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَأَفْحَمَ الْجَاحِدَ، وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَعَادَتِ الشُّبْهَةُ. وَقَالَ الْمُعَانِدُ: كَانَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ، لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَتَبَ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُكْتَبَ اهـ. قَالَ: وَفِي دَعْوَى أَنَّ كِتَابَةَ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فَقَطْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ يَسْتَلْزِمُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْجِزَةِ، إِذْ يَثْبُتُ كَوْنُهُ غَيْرَ أُمِّيٍّ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

أَقُولُ: وَوَجْهُ النَّظَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَانِدَ كَالْغَرِيقِ بِكُلِّ حَشِيشٍ، وَالْمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِيَّةُ ثَابِتَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ أَنَّهُ الْآتِي بِهَا أُمِّيٌّ، وَإِنَّمَا زِيدَ فِيهَا وَصْفُ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، لِكَمَالِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَبُطْلَانِ كَلَامِ مُعَانِدِيهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: ٤٨] وَالْمَعْنَى لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَخُطُّ وَيَقْرَأُ لَقَالُوا تَعَلَّمَهُ، أَوِ الْتَقَطَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَقْدَمِينَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ مُبْطِلِينَ لِارْتِيَابِهِمْ بِانْتِفَاءِ وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُتَكَاثِرَةِ اهـ.

وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ قَارِئًا كَاتِبًا مِنْ أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، وَأَتَى بِالْقُرْآنِ لَكَانَ مُعْجِزَةً، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا لَيْسَ فِيهِ مِرْيَةٌ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفُ بِهِ) فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً أَيْ: ضِيقًا وَإِكْرَاهًا وَشِدَّةً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ (فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَنَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَعَلَى أَنْ تَأْتِيَنَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَعَلَى (أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَحَدٌ (وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا) . وَفِي الْمَوَاهِبِ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ، فَإِنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>