يَنْحَرُ الْهَدْيَ مَكَانَهُ وَيَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ هَدْيُهُ الْحَرَمَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مُنِعَ عَنْ إِتْمَامِهَا فَإِنَّهُ يَنْحَرُ الْهَدْيَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ، وَيُفَرِّقُ اللَّحْمَ عَلَى مَسَاكِينِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَيَحْلِقُ وَيَتَحَلَّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيُهُ الْحَرَمَ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إِلَّا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَالُوا: إِنَّ بَعْضَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحَرَمِ وَسَبَقَ نَقْلُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: ١٩٦] وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] أَيْ: حَرَمِهَا. (ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: ١٠] أَيْ: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: ١٠] فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوهُنَّ) ، قِيلَ: هُنَّ غَيْرُ دَاخِلَاتٍ فِي الشَّرْطِ لِرِوَايَةِ: مِنَّا رَجُلٌ، وَعَلَى هَذَا لَا إِشْكَالَ، وَعَلَى رِوَايَةِ: مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنَّ لَفْظَةَ أَحَدٍ وَإِنْ يَتَنَاوَلْهُنَّ، لَكِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَوْضِيحُهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصُّلْحَ هَلْ وَقَعَ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ أَمْ لَا؟ قِيلَ: إِنَّهُ وَقَعَ عَلَى رَدِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، لِمَا رَوَيْنَا: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا رَدَدْتَهُ، ثُمَّ صَارَ الْحُكْمُ فِي رَدِّ النِّسَاءِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: ١٠] وَقِيلَ: أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَقَعْ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ) وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. (وَأَمَرَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ (أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ) أَيْ: صَدَاقَهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: إِنْ جَاءُوا فِي طَلَبِهِنَّ وَقَدْ سَلَّمُوا الصَّدَاقَ إِلَيْهِنَّ وَإِلَّا لَا يُعْطَوْنَ شَيْئًا اهـ. وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ شَرَطُوا فِي الصُّلْحِ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ بَطَلَ الشَّرْطُ، فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَا يُرَدُّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَّا لَوْ شَرَطَ مِثْلَهُ فِي النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ رَدُّهُنَّ، وَلَا شَكَّ فِي انْفِسَاخِ نِكَاحِهَا، فَلَوْ طَلَبَ زَوْجُهَا الْحَرْبِيُّ هَلْ يُعْطَاهُ؟ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ. فِي قَوْلٍ لَا يُعْطَاهُ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدُ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَاهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: ١٠] وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ النَّسْخِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَيْضًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، بَلْ مَفْسَدَةُ رَدِّ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِمْ أَكْثَرُ، وَحِينَ شَرَعَ ذَلِكَ كَانَ فِي قَوْمٍ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يُبَالِغُونَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْقَيْدِ وَالسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ، وَلَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِثْلُ أَبِي بَصِيرٍ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ لَمْ يَبْلُغُوا فِيهِمُ النِّكَايَةَ لِعَشَائِرِهِمْ، وَالْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ.
وَفِي الْمَدَارِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة: ١٠] هُوَ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَبْقَ سُؤَالُ الْمَهْرِ لَا مِنَّا وَلَا مِنْهُمْ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: ١٠] احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ، وَفِي الْمَعَالِمِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْمَهْرَ كَانَ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ الْيَوْمَ فِي رَدِّ الْمَالِ إِذَا شُرِطَ فِي مُعَاقَدَةِ الْكُفَّارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
(ثُمَّ رَجَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى الْمَدِينَة، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ (رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ) ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقَفِيُّ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute