قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: ٨] إِلَّا إِذَا خَافَ الْإِمَامُ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ أَرْسَلَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُزَنِيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ وَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَيْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعُوا بِمَنْ مَعَهُمَا، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ، فَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَتَصْنَعَهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعَهُ لَنَا؟ قَالَ: (بَلْ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمْرٍ مَا) . فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا وَنَحْنُ وَهَؤُلَاءِ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إِلَّا شِرَاءً أَوْ بَيْعًا فَحِينَ كَرَّمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهَدَانَا لَهُ وَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ مَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَنْتَ وَذَاكَ) فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَجْهِدُوا عَلَيْنَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْد اللَّهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ اهـ.
وَقَدْ سَبَقَ لَهُ تَحْقِيقٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَقَامِ أَيْضًا فَتَدَبَّرْ. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: لَمْ يَرُدُّوهُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَتَى الْجَزَاءُ هُنَا بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَفِيمَا سَبَقَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَمَا فَائِدَتُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي؟ قُلْتُ: اهْتِمَامُهُمْ بِشَأْنِ رَدِّ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَشَدُّ وَأَوْلَى مِنْ رَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمُ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَرُدُّوهُ مَاضٍ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُضَارِعًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَمْ يَرُدُّوا وَبَيْنَ مَا رَدُّوهُ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعَانِي مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَعْدَ دُخُولِ حِرَفِ الْجَزَاءِ يَصِيرُ مُضَارِعًا فِي الْمَعْنَى.
(فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ) أَيِ: ابْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْد شَمْسِ بْنِ عَبْد وُدٍّ، أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، فَقَيَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ فَانْفَلَتَ مِنْهُمْ مَعَ قَيْدِهِ (يَحْجِلُ) : بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَمْشِي (فِي قُيُودِهِ) : عَلَى دِينِهِ كَمَا يَمْشِي الْغُرَابُ، وَالْحَجْلُ مَشْيُ الْغُرَابِ (فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ) أَيْ: مُحَافَظَةً لِلْعَهْدِ وَمُرَاعَاةً لِلشَّرْطِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَصَارَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي عَنْ دِينِي فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِلْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ) أَيْ: لَمْ نَفْرَغْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَجِزْهُ لِي) قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ. قَالَ: (بَلَى فَافْعَلْ) . قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَرْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَيْ: مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَذَابًا شَدِيدًا. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) . وَوَثَبَ عُمَرُ يَمْشِي إِلَى يَمِينِهِ وَيَقُولُ: اصْبِرْ فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَدَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّةَ لِمُسْلِمٍ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مَعَ إِضْمَارِ الْإِيمَانِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّوْرِيَةُ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَلٍ إِلَى الْهَلَاكِ، مَعَ وُجُودِ السَّبِيلِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَوْتِ بِالتَّقِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ، وَإِنْ عَذَّبَهُ، أَوْ سَجَنَهُ، فَلَهُ مَنْدُوحَةٌ بِالتَّقِيَّةِ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ يَبْتَلِي بِهِ خَيْرَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute