وَفِي الْمَوَاهِبِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدِهِمْ أَمْ لَا. فَقِيلَ؟ نَعَمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ، وَقِيلَ: لَا، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ نَاسِخَهُ حَدِيثُ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ» ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ فَلَا يُرَدَّانِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ضَابِطُ جَوَازِ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي.
وَقَالَ ابْنُ مَكِّيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَبَعَثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِمْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمْسَكَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَهُ، فَأَمْسَكَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانَ فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ مُغْلَطَايْ: فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهُمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا اهـ. وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِمَالَهُ فِي يَمِينِهِ وَقَالَ: هَذِهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَفِي الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ بَيْعَةُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدَيْهِ. الْحَدِيثَ. وَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ بِهَذِهِ الْبَيْعَةِ خَافُوا وَبَعَثُوا بِعُثْمَانَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي هَذِهِ الْبَيْعَةُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: ١٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: ١٨] وَأَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَفَلَ فِي نُفُوسِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْفَتْحِ يُسَلِّيهِمْ وَيُذَكِّرُهُمْ نِعَمَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: ١] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الْفَتْحُ هَنَا فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَوُقُوعُ الصُّلْحِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَظُنُّونَ أَنْ لَا يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا أَيْ: حَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ بَلْ كُلُّهُمْ يُقْتَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: ١٨] فَالْمُرَادُ فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَى الصَّحِيحِ ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهَا الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ قَالَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا وَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ وَقَدْ جَمَعَ النَّاسَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: ١] الْآيَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (إِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ) . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: ١] الْحُدَيْبِيَةُ، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَتَبَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخِيلَ خَيْبَرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١] وَقَوْلُهُ: ( «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ) فَفَتْحُ مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ اهـ.
وَقِصَّةُ فَتْحِ مَكَّةَ مَشْهُورَةٌ، وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي مَسْطُورَةٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، أَوْ صُلْحًا، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرُ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْجَيْشِ، وَأَخَذُوا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ أَيْ: قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ( «اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ فَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ» ) . فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا فَقَالَ لَهُمْ: ( «أَلَا تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعَهُمْ» ؟) ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَضَرَبَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ: ( «احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا» ) فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ مِنَّا أَحَدٌ أَنْ يَقْتُلَ مَا شَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا قَتَلَهُ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْمَغَانِمِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute