مَكَّةَ، بَلْ هُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمْ، بَلْ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَبْغَتَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ لِجَمِيعِ أَصْحَابِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَمَنْ تَلَقَّى الْقِصَّةَ وَرَوَاهَا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: وَكَانَا فِي صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، فَمَكَثُوا فِي الْهُدْنَةِ نَحْوَ السَّبْعَةِ، أَوِ الثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا بِمَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْوَثِيرُ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا لَيْلٌ وَلَا يَعْلَمُ بِنَا مُحَمَّدٌ، وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَقَاتَلُوا خُزَاعَةَ مَعَهُمْ، وَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَنْشَدَهُ: لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَثِيرِ هُجَّدًا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا عُتَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ) . ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَتَجَهَّزُوا، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَى قُرَيْشٍ خَبَرَهُمْ حَتَّى يَبْغَتَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوَ هَذَا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يَكُنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ قَالَ: (أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ) ؟ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ، وَرَوَاهُ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ كَثِيرٍ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِيهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ فَقَالَ: (إِنَّهُمْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ فَأَنَا غَازِيهِمْ) اهـ. كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ.
وَفِي الْمَوَاهِبِ: كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ كَمَا فِي السِّيَرِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْبُيُوعِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا حَدِيثُ مُوَادَعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ، فَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّهَا سَنَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّ أَهْلَ النَّقْلِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ فِي سِيرَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَوْلُهُ: سَنَتَيْنِ يُرِيدُ أَنَّ بَقَاءَهُ كَانَ سَنَتَيْنِ إِلَى أَنْ نَقَضَ الْمُشْرِكُونَ عَهِدَهُمْ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا عَقْدُ الصُّلْحِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْفُوظُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ اهـ.
وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سِيرَتِهِ وَسِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ، الْحَدِيثَ. عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مُطَوَّلًا بِقِصَّةِ الْفَتْحِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ فَسَاقَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكْفِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَكَرَ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَضَعَ الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ إِلَى آخِرِهِ، فَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجْهٌ حَسَنٌ بِهِ تَنْتَفِي الْمُعَارَضَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، فَإِنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْفَتْحِ كَانَ نَقْضَ قُرَيْشٍ بَعْضَ الْعَهْدِ، حَيْثُ أَعَانُوا عَلَى خُزَاعَةَ، وَكَانُوا دَخَلُوا فِي حِلْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ، فَرَفْعُ الْخِلَافِ ظَاهِرٌ بِأَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ سَنَتَيْنِ أَنَّ بَقَاءَهُ سَنَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ عَشْرًا قَالَ: إِنَّهُ عَقَدَهُ عَشْرًا، كَمَا رَوَاهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
أَقُولُ: بَقِيَ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَعَلَّهُ حَاسِبٌ سَنَتَيِ الْعَهْدِ وَالنَّقْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا هَادَنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْمُهَادَنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ إِذِ الصُّلْحُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْفَتْحُ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: لَا حَدَّ لَهَا وَأَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّتِهَا مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاقْتِضَاءِ الْحَالِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute