قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا يَقْتَصِرُ جَوَازُ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ ; لِأَنَّ مَا عَلَّلَ جَوَازَهَا بِهِ هُوَ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ ثُبُوتُ مَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَادَعَةُ، أَوِ الْمُدَّةُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمَا أُبِيحَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جِهَادٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَهُوَ تَرْكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ مَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرُهُ مُسْتَظْهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَقَدْ كَانَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ لَمَّا تَقَارَبُوا انْكَشَفَتْ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ لِلَّذِينَ كَانُوا مُتَبَاعِدِينَ لَا يَعْقِلُونَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَارَبُوهُمْ وَخَالَطُوهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: (وَعَلَى أَنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الثِّيَابُ (مَكْفُوفَةً) أَيْ: مَشْدُودَةٌ وَمَمْنُوعَةٌ، قِيلَ أَيْ: صَدْرًا نَقِيًّا عَنِ الْغِلِّ وَالْخِدَاعِ، مَطْوِيًّا عَلَى حُسْنِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِالصُّلْحِ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الصَّدْرِ بِالْعَيْبَةِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَوْدَعُ الْأَسْرَارِ، كَمَا أَنَّ الْعَيْبَةَ مُسْتَوْدَعُ الْأَمْتِعَةِ وَالثِّيَابِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ نَقَاوَةَ الصَّدْرِ مِنَ الْغِلِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ تَرْكَ مَا كَانَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْأَضْغَانِ وَالدِّمَاءِ وَالِانْتِهَابِ، أَوِ الْمَعْنَى نَحْفَظُ الْعَهْدَ وَالشَّرْطَ وَلَا نَنْقُضُهُ، كَمَا نَحْفَظُ مَا فِي الْعَيْبَةِ بِشَدِّ رَأْسِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُوَادَعَةٌ مُصَادَقَةٌ تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَصَادِقَيْنِ الْمُتَشَاوِرَيْنِ فِي الْأُمُورِ، فَيَكُونُ كُلٌّ صَاحِبَ مُشَاوَرَةٍ لِلْآخَرِ وَعَيْبَةَ سِرِّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي) . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا سَلَفَ مِنَّا فِي عَيْبَةٍ مَكْفُوفَةٍ أَيْ: مَشْرُوجَةٌ مُشَدَّدَةٌ لَا يَظْهَرُ أَحَدٌ مَا وَلَا يَذْكُرُهُ. قَالَ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: ٩٥] . (وَأَنَّهُ) أَيْ: وَعَلَى أَنَّ الشَّأْنَ (لَا إِسْلَالَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: سَرِقَةً خَفِيَّةً (وَلَا إِغْلَالَ) أَيْ: خِيَانَةً، وَالْمَعْنَى لَا يَأْخُذُ بَعْضُنَا مَالَ بَعْضٍ لَا فِي السِّرِّ وَلَا فِي الْعَلَانِيَةِ، وَقِيلَ: الْإِسْلَالُ سَلُّ السَّيْفِ، وَالْإِغْلَالُ لُبْسُ الدِّرْعِ أَيْ: لَا يُحَارِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَنَا يَأْمَنُ بَعْضًا فَلَا يَتَعَرَّضُ لِدَمِهِ وَلَا مَالِهِ سِرًّا وَلَا جَهْرًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْإِسْلَالَ وَالْإِغْلَالَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْفَسَادِ وَأَتَى بِضَمِيرِ الشَّأْنِ؟ قُلْتُ: لَمَّا نَفَى الدُّخُولَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِأَنْ لَا يَنْشُرُوهَا، بَلْ يَتَكَافَوْنَ عَنْهَا مَا أَتْبَعَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِلِاسْتِيعَابِ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَرَّرَ (لَا) الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَحَذَفَ الْخَبَرَ نَسْيًّا مَنْسِيًّا، وَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ٦٢] كَأَنَّهُ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَوَاطِنُنَا خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ وَظَوَاهِرُنَا كَذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute