للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرْعِ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ انْقِيَادَ الظَّاهِرِ لَا يَنْفَعُ بِدُونِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَوَّلِ عَلَى الْحُكْمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَمَدَارَ الثَّانِي عَلَى الْأَمْرِ الْأُخْرَوِيِّ، أَوِ الْأَوَّلُ بِنَاؤُهُ عَلَى اللُّغَةِ، وَالثَّانِي مَدَارُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ، وَأَكْثَرَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَتَكَافَآ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَصَادِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ التَّصْدِيقُ إِذْعَانُ النَّفْسِ، وَقَبُولُهَا بِمَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهُوَ: تَقْلِيدِيٌّ، وَتَحْقِيقِيٌّ. وَالتَّحْقِيقِيُّ إِمَّا اسْتِدْلَالِيٌّ، أَوْ ذَوْقِيٌّ، وَالذَّوْقِيُّ إِمَّا كَشْفِيٌّ وَاقِفٌ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ، أَوِ الْغَيْبِ، أَوْ غَيْبِيٌّ غَيْرُ وَاقِفٍ عَلَيْهِ، وَالْغَيْبِيُّ إِمَّا مُشَاهَدَةٌ، أَوْ شُهُودٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ، وَالثَّانِي الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الثَّابِتُ بِالْبُرْهَانِ، وَالثَّالِثُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ الثَّابِتُ بِالْوِجْدَانِ، وَالثَّلَاثَةُ مَرَاتِبُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَالْأَخِيرَانِ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَالرَّابِعُ هُوَ الْمُشَاهَدَةُ الرُّوحَانِيَّةُ مَعَ بَقَاءِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى عَيْنَ الْيَقِينِ، وَالْخَامِسُ هُوَ الشُّهُودُ الْحَقَّانِيُّ عِنْدَ تَجَلِّي الْوَحْدَةِ الذَّاتِيَّةِ، وَزَوَالِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى حَقَّ الْيَقِينِ، هَذَا وَإِنَّ لِلْإِيمَانِ وَجُودًا غَيْبِيًّا، وَوُجُودًا ذِهْنِيًّا، وَوُجُودًا لَفْظِيًّا، أَمَّا الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنْ أَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَهُ نُورٌ يَقْذِفُهُ الْحَقُّ مِنْ مَلَكُوتِهِ إِلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ فَيُبَاشِرُ أَسْرَارَهُمْ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَضْرَةِ ثَابِتٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِذَا انْكَشَفَ جَمَالُ الْحَقِّ لَهُ ازْدَادَ ذَلِكَ النُّورُ فَيَتَقَوَّى إِلَى أَنْ يَنْبَسِطَ، وَيَنْشَرِحَ الصَّدْرُ، وَيَطَّلِعَ الْعَبْدُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَيَتَجَلَّى لَهُ الْغَيْبُ، وَغَيْبُ الْغَيْبِ، وَيَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَنْبَعِثُ مِنْ قَلَمِهِ دَاعِيَةُ الِاتِّبَاعِ، فَيَنْضَافُ إِلَى نُورِ مَعْرِفَتِهِ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: ٣٥] وَذَلِكَ الْقَذْفُ، وَالْكَشْفُ يَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ اللَّهِ فِي أَحَايِينَ، نَسِيمُ الصِّفَاتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِهِ، نَعَمْ شَرَائِطُهُ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَمَّا الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ فَمُلَاحَظَةُ ذَلِكَ النُّورِ، وَمُطَالَعَتُهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَأَمَّا الْوُجُودُ اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، وَكَمَا أَنَّ إِيمَانَ الْعَوَامِّ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَإِيمَانُ الْخَوَاصِّ عُزُوبُ النَّفْسِ مِنَ الدُّنْيَا، وَسُلُوكُهُ طَرِيقَ الْعُقْبَى، وَشُهُودُ الْقَلْبِ مَعَ الْمَوْلَى، وَإِيمَانُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ مُلَازَمَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَابَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْفَنَاءِ فِي اللَّهِ، وَإِخْلَاصُ السِّرِّ لِلْبَقَاءِ بِاللَّهِ ذَوَّقَنَا اللَّهُ.

ــ

[ (وَمَلَائِكَتِهِ) ] : جَمْعُ مَلَاكٍ، وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ قُدِّمَتِ اللَّامُ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا فَصَارَ مَلَكٌ، وَلَمَّا جُمِعَتْ رُدَّتِ الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ قُلِبَتْ أَلِفًا، وَقُدِّمَتِ اللَّامُ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَ كَشَمْأَلٍ، وَشَمَائِلَ، ثُمَّ تُرِكَتْ هَمْزَةُ الْمُفْرَدِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ، وَالتَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، أَوْ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ أُطْلِقَتْ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَوَاهِرِ الْعُلْوِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهِيَ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَخَاصَّةً أَصْفِيَاءَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانَيَّةٌ مُقْتَدِرَةٌ عَلَى تَشَكُّلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصُّعُودُ، وَالنُّزُولُ، وَالتَّسْبِيحُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّفَسِ مِنَّا، فَمَشَقَّةُ التَّكْلِيفِ مُنْتَفِيَةٌ، وَالْمَعْنَى نَعْتَقِدُ بِوُجُودِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ اسْمُهُ مِنْهُمْ ضَرُورَةً كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، وَإِجْمَالًا فِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ كِرَامًا كَاتِبِينَ، وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ، وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرُّسُلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، أَوْ هُمْ فَلَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُوجِبُ لِدُخُولِ الْإِيمَانِ بِهَا فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَطِنٍ يَرَى الْمَعْقُولَ كَالْمَحْسُوسِ، وَيُدْرِكُ الْغَائِبَ كَالْمُشَاهَدِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِلَى مَنِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَةُ الْحِسِّ، وَمُتَابَعَةُ الْوَهْمِ فَقَطْ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُعَلِّمٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَذُودُهُمْ عَنِ الزَّيْغِ الْمُطْلَقِ، وَيَكْشِفُ لَهُمُ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيُحِلُّ عَنْ عُقُولِهِمُ الشُّبُهَاتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَعِلَ الْقَرِيحَةِ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: ٣٥] يَحْتَاجُ إِلَى نُورٍ يُظْهِرُ لَهُ الْغَائِبَ، وَهُوَ الْوَحْيُ، وَالْكِتَابُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَامِلٍ، وَمُوَصِّلٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُتَوَسِّطُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: ٢٧]

<<  <  ج: ص:  >  >>